السبت، نوفمبر 14، 2009

مصراتة.. مسداة النسيج الليبي !

د. محمد محمد المفتي

17/08/2007

مهداة إلى عالم الآثار وعاشق مصراته

الأستاذ الحبيب الأمين !

مصراتة ؟ ..

ريف أم مدينة؟ واحة؟ أم قرية؟ .. لعلها كل هذه الأشياء معًـا. إنها مدينة ولا شك، بتعدادها الذي يفوق نصف المليون وبشوارعها الرئيسية العريضة والجيدة الرصف.. وبدكاكينها .. بل وبها سوبر ماركت .. وبها ورش، وصيدليات وعيادات خاصة وبوتيكات ومحلات الأواني المنزلية.
لكنها بدون تاكسيات أو حافلات أجرة .. وحين تخرج من الطرق الرئيسية .. على بعد خطوات تجد نفسك في الريف، شئ شبيه بدرنة أو تاجوراء. الميناء حديث وجميل في انتظار السفن، خالٍ دون مركب واحد! هناك صالونات تزيين النساء، لكن المرأة غائبة أو نادرة الوجود حتى في مركز المدينة حيث دكاكين الأزياء .. ولم تقابلني مرأة تقود سيارة. ولم أصادف صالات أفراح، سوى مدرج محاضرات فندق قوز التيك الذي نزلنا به .. أحزنني .. لكن من الواضح أن استضافة عرس أكثر جدوى!
ولا تحتاج لإقامة طويلة حتى تدرك ما فعلته الخرسانة بالنخيل. ومن الطائرة، تدرك مبكرا حقيقة العلاقة .. فكل مكعب خرساني .. بيتا أو ورشة أو .. محاط بهالة من البوار وغياب الخضرة. مصراته فيها مليون نخلة .. وكذا من أشجار الزيتون .. ربما أيام زمان، فكثير من المزارع دامرة .. والغزو الخرساني واضح .. والمؤسف أن مساحة البناء العمراني تتطابق مع المزارع وعلى حسابها كما هو واضح من خرائط الأستاذ الحبيب لامين الملتقطة بالأقمار الصناعية.


باختصار مصراتة مجرد مدينة ليبية أخرى.
أم هي أكثر من ذلك: بها مصنع الحديد والصلب، و14 مطبعة حديثة تجعل مصراته بحق عاصمة الطباعة في الشمال الإفريقي كما قال أحد الناشرين .. مطابع عملاقة بالكمبيوتر تجعل مطابع بنغازي تبدو بقايا آثار ثورة الطباعة قبل أربعة قرون. وبها سوق حرّة تحت الإنشاء، ومصنع النسيم لمنتجات الألبان وهو من القلة الحائزة على علامة الجودة الليبية. وأذكر أن صديقا له علاقة بالتعليم قال لي ذات مرة أن مصراته هي الشعبية الوحيدة التي نفذت مشروع المختبرات المدرسية في الثانويات التخصصية .. 72 معمل .. وفي مصراته تصدر موسوعة سنوية لرسوم الأطفال، ربما الوحيدة في ليبيا.
هل هذه مؤشرات لروح العمل والجدية والمغامرة التي تميز "المصراتي" ؟ ألا تستحق مصراته وصفها بمنارة التحديث والتطور الليبي، خلال ربع القرن الماضي.
- وكذلك ؟
- ما فيهاش مجاري فايضة.
- الصرف الصحي جيد.
- أضواء شوارعها ، كلها تشعل ؟
- بالك واخذين لمبات شي مدينة أخرى؟
- معلش .. في رأي .. مصراته تستحق جائزة المدينة الليبية الأولى في عدد المباني غير المستكملة أو التي لم تطلى جدرانها الخارجية! حسابات غلط؟ أم ضيق ذات اليد؟ أم تمويه ضد طيران العدو؟
- لكن ، اللي ما لهاش تفسير .. هو توالي أضواء السيمافرو، على عكس عقارب الساعة؟
- أكيد فيكم عرق إنجليزي !
- ولكنها مدينة ليبية .. بدليل أن الناس والصحف المحلية ما تزال تحكي على التسيب والفساد والمشاريع الواقفة وكولسة التصعيدات .. " بالمغارسة " ، والمصطلح لطرنيش!
- الأمور ليست خاضعة للحساب .. 1+3 قد لا تساوي أربعة!
- كلام جميل .. وموش معقول ، كما رددت مطربة أيام زمان!!

زيارة واستنارة

أربعة أيام قضيتها في مصراته، برفقة الدكتور فرج نجم، في ضيافة الأستاذ الحبيب لامين .. الذي أعد لنا جدولا مكثـفًـا من التجول والزيارات والمآدب، بسرعة تقطع الأنفاس! من زاوية المحجوب إلى جامعة الوليّ أحمد الزروق ، إلى مسجد الغلابنة، ميناء قصر حمد، التنارة أو ما بقي منها فهي مجرد أطلال أشبه بآثار إغريقية..

لأن موسم سمك التن كان سيئا لأكثر من عام ولم تصل الأسماك إلى شواطئ مصراته لوضع بيضها، ثم مدرسة نوري الحربية .. مهملة تكاد تختفي تحت ركامها .. وشاطئ العرعار حيث كانت تنزل الغواصات الألمانية إمداداتها لحكومة مصراتة.

وزرنا ضريح الولي سيدي عبد الرؤوف "ساكن الكهوف" كما يصفه سيدي عبد السلام الأسمر في إحدى مدائحه، وكان الضريح قائم على كهوف أرضية، اتخذها السويحلي مخزنا للسلاح والذخيرة .. ويوم انتهت ذخيرة مدفعهم بكى الضباط والجنود. وهو وليّ محاط بهالة غريبة خاصة وأنه مجهول الأصل. لكنه يزار أسبوعيا للتبرك. ويبدو أنه كان يقام عنده حفل سنوي ’’ .. وتذبح كل أسرة ديكا يعلقونه من رجليه في زيتونة .. وهكذا جرى القول المأثور .. مشية الديك لعبد الرؤوف‘‘، كما أخبرني الشيخ امحمـّـد. ومن سيدي عبد الرؤوف تقدمنا جنوبا إلى مشارف الصحراء، إلى قصر الخزين عند وادي جعران .. حيث كان قطيع من الإبل يأكل التبن.. لكن الفحل رغم تغير المأكل ما زال مصِـرًا على إبعاد القعدان عن إناثه.

وقبل أن أنسى .. اكتشفت ولع الحبيب لامين بالرمال ، أو كما قال " ليس بمصراته جبال .. لكن للكثبان جمالها الخاص" ، وكما إبن الصحراء، عنده لكل كثيب إسم .. وهكذا أخذنا الحبيب إلى كل كثيب ذي شأن. لكن أروع ما رأيت هي النـّبـِــكة .. أراضي صغيرة مستصلحة وسط حلقة من الكثبان. هكذا كان أسلافنا يستعيدون النماء من الرمل .. بينما أجيالنا الحاضرة تقتل النخيل، كخطوة أولى لبيع الأرض. الطمع غريزة بشرية، ولم يعد النخيل ذي جدوى اقتصادية في زمن الاستهلاكية .. لكن السؤال هو أين التخطيط العمراني؟

أروع اكتشاف لي هو وجود مكتبتين ضخمتين بالمدينة، في زاويتي المحجوب والزروق .. أقيمت بالجهد الأهلي.. كما حدثني الشيخ أمحمد المِجري أمين ومؤسس مكتبة المحجوب الذي رافقنا دون انقطاع تقريبا ... وحكى الشيخ مصطفى بوعجيلة أمين ومؤسس مكتبة زاوية المحجوب أن ’’ المناضد لم تكن ولابد .. تبرع أحدهم بالخشب والحديد .. وتبرع صاحب وعمال ورشة بصناعتها‘‘.. الدنيا ما تزال بخير. لكن العمل الطوعي لكي ينجح لابد أن يتأسس على ثقة الناس في القائمين عليه!

وزرنا مزارع الزيتون الشاسعة المتبقية من زمن الاستيطان الإيطالي، والتي كانت تحمل إسم فولبي .. ذلك الاستعماري البغيض، الذي رفع شعار الحرب ورفض التفاوض مع زعماء الجهاد تحت شعار ’’لا بالزعماء ولا ضد هم .. وإنما بدونهم‘‘. ولم يبق من عنجهية ذلك العهد سوى الزيتون .. وبالاص بازينه الغامض والمهجور الـشبيه بقصر الأشباح.
وسط المدينة مملوء عمارات حديثة وإن افتقدت الطراز المحلي ، وبقي السوق القديم والساحة لتجار التفريش .. لكن المتاجر الحديثة في شوارع أخرى. المعمار الإيطالي اختفى. يبقى الفندق السياحي. وكان لابد أن أزور جامع آل ماطوس: ’’كان أبناء تلك الأسرة منهمكين في بناء الجامع، حين عاد الجنود الطليان مهزومين من معركة .. قتلوا الأسرة. ودفنوهم في قبر جماعي. وفي نفس المكان شيدت كنيسة. فكان لابد من تحويلها إلى مسجد مرة ثانية، وإقامة نصب لشهداء آل ماطوس في الحديقة‘‘. وزرنا مسجد الغلابنة ، الذي درس به ابن غلبون أول مؤرخ ليبي وصاحب كتاب التذكار.

مآدب

أكرمنا الكثيرون بمآدب الطعام ومنها غداء في بيت الشيخ الهاشمي وأبناؤه، وعشاء مع بعض أدباء المدينة، في بيت الكاتب محمد مليطان. لكن أمتع وجبة كانت ولا شك في مطعم سعيد الجزائري في منطقة الزّرّيـْـق .. شربة سمك ، أسماك مشوية وجنبري مقلي على الأرز .. ليس مطعما بالمعنى المألوف .. مبنى بسيط على شاطئ قصي شبه مهجور. قاعة واحدة، غرفة مربعة بسيطة لكنها مكيفة، بها منضدة ولك أن تختار جلسة عربية على الأرض ، وهو ما فعلناه. وكان معنا الخطاط الأستاذ محمد الشقماني. صاحب المطعم له قصة أيضا. سعيد الجزائري، الذي حل بالمنطقة قبل عشرين عاما وتزوج من مصراته. مهاجر آخر حل بالمدينة .. طلبا للرزق. أعجبه المكان، وارتاح لوجوده أهل المنطقة .. وعبر السنين سيصبح أبناؤه وأحفاده من أهل المنطقة .. قصة تكررت عبر القرون.

عنقود مصراته

ثلاثة جـنـّا في عنقود / الميري والشر ومحمود .. هكذا يقول بيت شعر قديم ردده الناس في العصر التركي .. الميري هو الضريبة، ومحمود ربما كان إسم أحد حكام المدينة القساة. ولعل البيت يؤرخ بشكل ما لبدء انضواء مصراته للدولة.
قبل ذلك كانت ريفا .. قري متجاورة منفصلة، عرفت آنذاك بقصور مسراته المؤسسة على المزارع المروية بآبار الجبد الضحلة نسبيا. ومن اندماج تلك القرى ولدت مصراته الحالية، التي تحتفظ أحياءها بأسماء القرى الأولى. قال لي أحد من قابلتهم’’.. في مصراته المنطقة هي الأصل .. وليست رابطة الدم كما بين قبائل البدو .. وكثير من أحياء مصراته تحتفظ بأسمائها القديمة .. الأمازيغية قبل تعريب المنطقة .. مثلا يـِــدّر، قراره، إقزير، زموره، طـِــمّيـنه، الملايطة، تاورغا .. مما يؤكد الانتساب إلى المكان وتواصل واندماج الثقافة ‘‘.
إذن هوية مصراته هي المكان. وخارج مصراته يعرّف القادم منها نفسه بالمصراتي وهذا طبيعي. لكنه يذهب أبعد من ذلك ويدعي الانتساب إلى " قبيلة مصراته"، كما في بنغازي ودرنة. وقد ينسب نفسه إلى " قبيلة " يدّر أو اقزير ..الخ. طبعا المكان أكثر انفتاحا من القبيلة .. يستقبل الوافدين، ومنه يرحل الناس بسبب القحط أو الوباء أو الحروب ، وجميعها كانت عوامل فاعلة وموثقة. ثم أن مصراته كانت محطة هامة على طريق الحجيج.
لكل حي .. جبانته ومسجده ووليه. في الأزمنة القديم .. أزمنة ما قبل الدولة، كان الأولياء ، كما في كل المدن الليبية .. نوعا من التنظيم الاجتماعي. فضريح الولي ملحق به مسجد وكتـّـاب لتعليم الصغار، وبه يقيم شيخ/فقيه/ معلم .. يقضي بين الناس .. وإلى الضريح يلجأ الناس لفض خلافاتهم بالحلف عنده.
قديما كانت مصراته موطن قبيلة هوارة الأمازيغية. وينتسب أهل مصراتة للفرع اللـهــاني من هوارة وهي قبيلة بربرية مستعربة .. وعنهم قال الإدريسي (سنة 1154) " .. أن قبائل العرب نزلت على قبائل البربر فنقلوهم إلى لسانهم بطول المجاورة .. حتى صاروا جنسا واحدًا" ..‘‘.
استيطان مصراته موغل في القدم .. كما تؤكده بقايا الآثار الرومانية في مناطق الكوم والفلاطيـة والهنشير. لكن أقدم أجزائها العربية هي زاوية المحجوب التي أسسها سيدي إبراهيم المحجوب المولود حوالي سنة 1309 ميلادي .. أي قبل 700 سنة. وفي رحلته سنة 1518 يصفها الحسن الوزان المشهور باسم ليو الإفريقي .. بأنها منطقة يتسم أهلها بالثراء نتيجة تجارتهم مع أفريقيا التي يجلبون منها الزباد والمسك .. كما أنهم يتاجرون مع سفن البنادقة
وفي سنة 1846 ، زارها الرحالة الإنجليزي جيمس ريتشاردسون الذي قال أن تعدادها كان حوالي 12 ألف، ووجد بها خمسين عائلة يهودية، ومندوب مالطي كممثل للقنصل البريطاني في طرابلس.

حـكـومة مصــراته

مصراته اليوم مجرد مدينة ليبية أخرى. لكن قارئ التاريخ يعرف أن مصراته ، كانت دولة قبل تسعين عاما،.. بل دولة مستقلة!! لن تجد في المدينة ما يشير إلى ذلك التاريخ وعليك أن تبحث عنه. بعد معركة القرضابية واندحار الجيش الإيطالي المتوجه إلى الجنوب، انسحب الطليان من الدواخل، وتمتعت مصراته ودواخل طرابلس بنوع من الاستقلال.
تاريخيا، لا تذكر مصراته دون ذكر رمضان اشتيوي السويحلي الرجل الذي حسم نتيجة معركة القرضابية. وفعلنا زرنا حيّ أم بخور .. منطقة السويحلية .. ربما توقعت أن يكون هناك متحف على الأقل. لكن الخرسانة سبقتنا إلى المكان .. والتهمت بيت السويحلي .. ولم يبق سوى أطلال بيت ابنته خديجة .. وفضاء مهملا به بقايا نخيل وبئر جاف .. سانية خليل كما تسمى نسبة إلى صهر السويحلي.
تشغل معركة القرضابية (29 ابريل 1915) والتي لم تستمر سوى بضع ساعات .. تشغل مساحة عريضة في الضمير التاريخي الليبى، ربما لأنها تشعل في الذاكرة شتى العواطف المتناقضة، فهي وإن كانت مذبحة لجيش العدو إلا أنها قادت إلى صراع دموى بين الإخوة .. فبعد انسحاب الطليان كشفت القبلية المقيتة عن أنيابها وأضرمت حروبا أهلية 1. كما كانت القرضابية المعركة الكبرى، ربما الوحيدة، التى حارب فيها الطرابلسيون والبراوقة في جبهة واحدة ضد عدو مشترك.
في وادى القرضابية وقع الصدام بين المجاهدين وجيش ميانى .. وحسم الموقف رمضان السويحلي الذي أمر من معه بإطلاق النار على الطليان من الخلف. وهنا، في لحظة رعب، سادت الفوضى صفوف الطليان وفـرّ من فر، وكانت مذبحة .. وبقيت في ميدان المعركة الجثث والإبل والخيل والأسلحة.
بعد المعركة، أمسى رمضان السويحلى ، صاحب القرار النافذ في مصراته، ويصفه الشيخ الطاهر الزاوي في كتابه "جهاد الأبطال"، بصدق العزيمة وعلوّ الهمّة ، والذي يجب أن نضيف، أنه لم يكن قد تجاوز 36 عاما من العمر... و’’ دان له أهلها بالطاعة عن طيب نفس من الكثيرين ، وعلى مضض من البعـض ... وأخذ الأمور بما تستحق من الحزم فاستقامت له ..‘‘.

جاء إلى مصراته أيضا في سبتمبر 1916 ، الضابط التركي نورى بك وعبد الرحمن عزام اللذان قدما من برقة إثر استبعاد السيد أحمد الشريف وفقا لاتفاقيات السيد إدريس مع الإنجليز والطليان. وصاحَبَ هذه التطورات وصول إمدادات تركية، على مراكب محملة بالسلاح والأدوية .. وأكثر من ثلاثين دراجة. وفيها إثنا عشر صندوقا مملؤة بالمجيدى (عملة فضية عثمانية). وكانت الغواصات الألمانية ترسو في عند شاطئ العرعار الضحل .. فتخرج إليها القوارب لتفرغ حمولتها. وقد أضفى وجود هؤلاء على تجربة حكم رمضان السويحلى في مصراته، طابعا متميزا ومثيرا. من ذلك توجهها إلى إنشاء مدرسة عسكرية في الملايطـه في بيت تبرع به الحاج محمد مليطان آنذاك، ومصنع لحدادة الأسلحة وإصلاحها ، وملء الخرطوش وصناعة الأحزمة الجلدية.
لكن السويحلى، رغم وطنيته وشجاعته وعفته .. إلا أنه افتقد المرونة ونزع إلى الحدة والعنف والتسلط وإن كانت بعض تلك الصفات من سمات الزعامة آنذاك. وقاده طموحه وبتحريض من المحيطين به إلى السعي إلى توسيع دائرة نفوذه، وذلك في محاولة لضم ترهونة وربما بني وليد التي كان يسيطر عليها عبد النبى بلخير منافسه اللدود. وكان أن قتل رمضان في بنى وليد، صباح يوم عيد الأضحى 24 أغسطس 1920. وعلى أية حال تاريخ مصراته السياسي لم يكتب بالكامل بعد، أو كما قال لي أحد الشيابين : ’’ .. مصراته كلها جمال .. [أي فحول وزعامات] .. الكل عارفين من اللي جاهد ومن اللي طـَـلـيـَن .. ولهم في حكاياتهم تحيزات .. لكن ما حد يقدر يحكي لك‘‘!.

بعد مقتل إبراهيم، إبن رمضان السويحلي، رحل ما تبقى من مجاهدي مصراته بقيادة الهادي القماطي، إلى برقة. ويقال أن الناس خافت منهم في البداية .. وعاشوا بعيدا عن أعين الطليان يقتاتون على الأعشاب والأرانب .. ووصلوا الجبل الأخضر وساهموا في معركة ضد الطليان فجاءهم الفضيل بوعمر الذي ضمهم إلى المحافظية، وعرفوا بطابور السويحلية .. وبعد انتهاء حركة الجهاد باستشهاد عمر المختار، استقر منهم من استقر وهاجر الباقي إلى مصر. وقد أخبرني الحاج عبد الحميد السويحلي حفيد رمضان أن القماطي رحل إلى فلسطين .. وهذه قصة جديرة بالتحقيق التاريخي.

بـــزوغ الوعي بالهوية الليبية

مبكرًا في تأملي للوعي بالهوية الليبية وتطورها، تزايد اقتناعي بمكانة مصراته المركزية في تماسك المجتمع الليبي الحديث.
وفي دراسة سابقة بعنوان ’’في البدء كان قنانة‘‘ قبل سنوات ، وهي الآن فصل في كتابي ’’هذا الوطن الذي يسكننا‘‘، طرحت فرضية مؤداها أن بداية وعي الليبيين بذاتهم وهويتهم كشعب واحد.. ربما كانت قبل قرنين .. وقدمت جملة من الأدلة على ذلك .. منها تزامن انتشار شعر سيدي قنانة الفزاني باللهجة الدارجة، مع تأليف إبن غلبون لأول كتاب عن تاريخ طرابلس/ ليبيا، وجهود الأسرة القرملية المتلـيـّـبة في بسط نفوذ طرابلس على برقة، وتحرر فزان من حكم دولة الكانميـين في السودان لترتبط بالشمال تحت هيمنة أولاد سليمان ..الخ.
في اعتقادي أن مصراته لعبت دورا مكملا .. في تلك التطورات. فالملفت للانتباه أن أبناء مصراته منتشرون في كل أرجاء ليبيا.. وستجد المصراتيين بكثافة أينما حللت في ربوع هذا الأرخبيل الليبي .. مهيمنون على التجارة.
الأكيد أن هذا الانتشار وليد هجرات متكررة. ولعل استقرار مصراته وازدهارها الزراعي كان سببا في معدلات تكاثر عالية .. لكن الرقعة الزراعية محدودة، فمصراته تمتد من زاوية المحجوب غربا إلى قصر حمد (أو تاورغاء) شرقا، بمسافة حوالي 22كم، محصورة بين البحر والصحراء ، وشرقا تحاصرها السباخ. ولهذا كان لابد من الهجرة كل جيل أو جيلين!
ربما لنفس السبب دأبت الحكومات على تجنيد أبناء مصراته في الحملات التأديبية لإخماد ثورات الدواخل، وتأكيد ولاء برقة لوالي طرابلس.. ولإخماد حروب البادية ومنها تلك التي صاغها الخيال الشعبي في قصة أو أسطورة تجريدة أو جردة حبيب. لقد كان من نتائج تلك الحملات استقرار رجالها وأسرهم.. كما في درنة، التي كانت أحياءها تقسم إلى مصراته وزليتن وتواجير وكراغلة وطواهر ..الخ.

الكراغلـــة

صعود القرملية إلى سدة الحكم، كان أيضا تعبيرا عن ظهور وترسخ شريحة جديدة في المجتمع الليبى، وهم الكراغلة. مصطلح الكراغلة يستخدم في ليبيا للإشارة إلى قبائل يشيع اعتبارها من أصول تركية ، والكر غلي لغويا في التركية يعني أبن الجندي، ولهذا يعتقد الناس عادة أنهم من سلالة ليبيات تزوجن من جند الإنكشارية في العهد العثماني. لكن إسماعيل كمالي، الذي شارك دي آغوستيني في تجميع مادة كتابه الموسوعي الضخم عن سكان ليبيا، يطرح تصورا أقرب للمنطق، مؤداه أن لقب الكراغلة كان يطلق على كل من انخرط في سلك الجندية بغض النظر عن أصولهم العرقية، أتراكا أو محليين سواء أكانوا عربا أو بربر مستعربين2 وهذا ما يطلق عليه فرج نجم مصطلح التكرغل 3. وهكذا برزت أسماءهم في الوظائف الحكومية خاصة في جباية ضرائب الميري وجمع الجند للحملات.
ومن المنطقي أيضا أن نتصور أن كثيرا من الناس كانوا ينحازون وينضمون للدولة، خوفا على أراضيهم وتهربا من الميري. وأنهم كانوا يزوجون بناتهم للجنود وأبناء المسئولين. كما أنه من المنطقي أن نتصور استقرار كثير من رجالات الدولة من جنود وموظفين بأسرهم ، وهؤلاء بدورهم نشدوا الحماية بالانضواء تحت راية البيوت المتنفذة بالمدينة. وهناك دلائل كثيرة على كل هذه التطورات، في كل مدن وأرجاء ليبيا.
إلى هنا والأمر عادي، لكن ما يزيد من أهمية الظاهرة في السياق الليبي .. أن الكرغلى في الزاوية أو مرزق أو طبرق، يرى في بقية الكراغلة في كل قرى ومدن ليبيا، أبناء " قبيلته أو ضنا عم " ! بل بلغ " تلييب" الكراغلة أنهم تبنوا نفس مفهوم الموطن القبلي الليبى أو أرض الجد. وهكذا زعم أو راج بين الكراغلة انتسابهم إلى مصراتة بالذات. وهذه القناعة، سواء عن حقيقة أو وهم، يسّرت انتقال الكراغلة من مدينة إلى أخرى. وجعلتهم نسيجـًا يزيد من تماسك المجتمع، خاصة بالنظر إلى انتشارهم في كل أنحاء ليبيا كتجار. فالتاجر الكرغلي والمصراتي عموما، لا تربطه قرابة الدم مع الكراغلة والمصارته في أسواق طرابلس أو درنة، لكنه بفضل التقمص القبلي الذي وصفناه، كان يتعامل معهم على درجة من الثقة سمحت بانسياب التجارة التبادلية بينهم. الأهم أنهم على أرض الواقع، أمسوا بفضل ممارستهم للتجارة، لـُحمةً شدّت أطراف ليبيا، فشكلوا جسورًا عبر المسافات الجغرافية الشاسعة بين القرى والمدن الليبية 4.

إذن لمـاذا مصـراتــه ؟

ما قلناه يقودنا إلى التساؤل عن السمات التي جعلت مصراتة مركزا تجاريا في المقام الأول؟ ما الذي سمح لهذه الواحة الساحلية، التي لم تختلف عن كل واحات ليبيا بممارسة التجارة ومن ثم اكتساب تقاليد تجارية عريقة؟
طرابلس، غلب على تاريخها الجانب السياسي والعسكري، فكانت سدة حكم وكانت مرفأ للقراصنة أو سفن الجهادية لفترة طويلة. والسبب يكمن في موقعها عند منتصف البحر المتوسط، حيث ما يشبه المضيق بين الساحل الأفريقي من جهة ومالطا وصقلية شمالا، ولذلك حاولت القوى العسكرية تأسيس مراكز لها .. الاسبان ثم فرسان القديس يوحنا (فرسان مالطا) ثم الأتراك.
أما بنغازي تأسست، ربما في القرن 14، على تصدير الملح المستخرج من سباخها ومن سباخ المناطق المتاخمة وخاصة كركورة، ولذلك عرفت بنغازي قديما بمرسى الملح.

قافلـة حبيب ؟

في العصور الوسطى كانت التجارة مع أفريقيا تتم عبر مرزق وغدامس، وواحات المغرب، وكانت تجارة مؤسـسة على استيراد الذهب من تومبكتو ومملكة غانا الكبرى آنذاك.
في القرن 18 و 19 ، قامت الثورة الصناعية في أوروبا ومركزها آنذاك بريطانيا. ونهضت الصناعة بفضل اختراع المحرك البخاري وميكنة صناعة القطن. ولتوفير القطن للمصانع أقيمت مزارع ضخمة في جنوب أمريكا الشمالية وفي جزر الكاريبي. وكما نعلم قامت تلك المزارع على جهد الرقيق الأفريقي، الذي كان يصدر عبر شواطئ غرب أفريقيا بالدرجة الأولى. وهذا ما قاد إلى انحسار حركة التجارة عبر الواحات التقليدية مثل غدامس ومرزق.
من ناحية أخرى، ازدهرت الحركة التجارية مع بلاد السودان وهو الإسم الذي كان يطلق على السودان وتشاد والنيجر، المتاخمة لجنوب الصحراء الليبية.. كمصدر للرقيق وريش النعام بالدرجة الأولى. لماذا ؟ عليك أن تتأمل خارطة الشمال الأفريقي. وستلاحظ أن خليج سرت ينغرس جنوبا في ساحل ليبيا. هذا اللسان البحري يقصـّـر المسافة بين البحر المتوسط وبلاد السودان بحوالي ألف كيلومتر مقارنة بالطرق الأخرى، كالتي تبدأ من تاهرت أو فاس. فالمسافة من سرت عبر فزان إلى بحيرة تشاد حوالي ألفين كيلومتر فقط 5. وتوفير ألف كم ليس بالأمر الهين .. بل حيوي، خاصة لقوافل العبيد التي كانت سيرا على الأقدام.
هنا برز دور مصراته .. فهي أقرب مستقر بشري منتعش بمياهه وزراعته خاصة لإنتاج غذاء القوافل من تمر وحبوب وزيت! وهكذا أمست مصراته مركزا تجاريا، بين طرابلس وبلاد السودان على الأقل طيلة القرنين 18 و19. فالقوافل تأتي من طرابلس، لتخرج من مصراته إما بمحاذاة الشاطئ أو جنوبي سبخة تاورغاء .. وهما طريقان بهما آبار متقاربة .. وحين أخذنا الحبيب لامين إلى شاطئ العرعار .. وقفنا عند بئر قلمام وحين أشار إليه اكتملت في ذهني قصة مصراته!
وبالطبع اكتسب أهلها خبرة في التعامل والكسب والاستثمار، تراكمت مع الأجيال .. واكتسب تجارها قيما وسلوكيات ومهارات .. التي ننسبها عادة لشخصية التاجر المصراتي: كالحرص والكتمان والتوفير والتقـتير، وتحمل المشاق، وروح الاستثمار وأيضا الاستعداد للسفر والاستقرار بعيدا عن الأهل فلمصراتي كما قال لي جبيب لا يحسب تعبه .. المهم في التجرة.
وفوق ذلك امتلك المصراتي شبكة علاقات واسعة بإخوانه من تجار مصراته عبر كل المدن الليبية.
قد لا تكون الشخصية النمطية للتاجر المصراتي، دافئة أو مثيرة .. فقد يجنح بعضهم إلى البخل والأنانية. لكن هذا لا يقلل ولا يلغي دورهم الاجتماعي. فكذلك كان رواد الصناعة في أوروبا.
والواقع أن "مصراته" لعبت دورا كبيرا في انتعاش بنغازي بعد الحرب العالمية الثانية. فقد وفد على بنغازي الكثير من شباب مصراته.. إثر موجات الجفاف والكساد، واستأجروا دكاكينا سكنوا وعاشوا بها حتى وفروا المال. رقدوا في الدكاكين .. وفيها يطبخون ويعصدون البازين .. وتدريجيا أصبح بعضهم من كبار التجار. ومن مصر رجع مهاجري مصراتة في مصر، وكثير منهم استقر في بنغازي. وتركز نشاطهم على تجارة العبايات (اللفة ) والحصران والمعالف والقفاف، والشبك وبراسيم التمر . وبالطبع واصل بعضهم تجارة الاستيراد مع مصر، خاصة الأرز والسكر. ومنهم من عاد بثروة من هناك لممارسة تجارة الذهب .. واستقر معظمهم في سوق بوغولة وسوق الجريد . 6
هكذا تطورت مصراته كبيئة تجارية، وانتشر أبناؤها في كل المدن والقرى .. ليؤسسوا دكاكين ومغازات ومتاجر ذهب .. ليربحوا، ولكن أيضا ليزيدوا لحمة الوطن اتصالا وتماسكا.
فهل من المبالغة القول أن المصارته هم من وحــّــد ليبيا ؟!

______
1 ص 85 وما بعدها من كتابي " هذا الوطن الذي يسكننا: روافد الهوية الوطنية" ، مطبوعات دار عراجين، 2007.
2 ص 25 من كتابه وثائق عن نهاية العهد القرملي، ترجمة محمد بزامة.
3 ص 126 وما بعدها، من كتابه القبيلة والإسلام والدولة.
4 فصل في البدء كان قنانة ، من كتابي " هذا الوطن الذي يسكنن2007.
5 ص 574، من كتاب تاريخ الصحراء الليبية في العصور الوسطى، تأليف جاك تيري، ترجمة جاد الله عزوز الطلحي، مطبوعات الدار الجماهيرية، 2004.
6 ص 107، من كتابي " هدرزة في السوق .. دكان الشايب "، دار الساقية، بنغازي، 2005

http://www.libya-alyoum.com/look/article.tpl?

IdLanguage=17&IdPublication=1&NrArticle=9967&NrIssue=1&NrSection=14

->إقراء المزيد...

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Google

متواجدون

نصير شمه - مقطوعة العصفور الطائر

قصور مصراتة

art