السبت، أغسطس 21، 2010

المثقف والغلطة

المثقف والغلطة *

بين الحرية والصمت والتسوية

المثقف والغلطة 2010

واصرخْ لتسمع نفسك ,

وأصرخ لتعلم أنَّكَ ما زلتَ حيّاً, وحيّاً ,

وأنَّ الحياةَ على هذه الأرض ممكنةٌ .

فاخترعْ أملاً للكلام ,

محمود درويش

في خضم القطبية المستوحدة والمستحوذة على المغنطة لكل المجالات والتيارات, الآسرة للشاردين عن متن الحديد وتحت وطأة البحث بين دروب الجمر عن سبل للعيش بأي زاد أو رماد ولو بالتعايش مع الخبز وحده ... ليستعر الفرن وليحيا الفران ... لا حياء يواري التعفف ولا صبر يحصد الجود من أهل الزمان وأصحاب المكان ...

ومع زحام التجاذب الثقافي لتلابيب التنافد عبر مدخلات الحضور بأي ثمن , وحيثما كان امتطاء الكوادر بمقصورة الحكومي للتحول إلى تكنوقراط خدمي رادع وموجه من جنس الحبارين .. ينخرط البعض بالشد على أستار المشهد كسادن بيروقراطي يتمسح بقرطاس وقلم لصالح وراقة مدجنة السطور ومهجنة المتون برأسمال الإغواء وخرائط الاحتواء .... ربما يكون هذا ما كان يعنيه ادوارد سعيد بقوله :

" حين أقرا جان بول سارتر أو برتراند رسل , إنني أجد أن صوتهم وحضورهم المتميز والفردي هو الذي يترك بصماته علي فضلا عن أرائهم لأنهم يفصحون عما يؤمنون به. وعليه لا يمكن أن تخطئهم فيتساوون عندك مع موظف مجهول أو بيروقراطي متكلف " .

" أي ماء يدور في وجهك الحر

إذا ما امتهنته بالسؤال "

ديك الجن

لا ريب أننا بصدد مسار مأزوم وملتوي على الشلل - لا حراك به - بشللية أرجله ورجالاته .

من هنا تبدو المشكلة رغم تعدد أشواكها وصعوبة الإمساك بلبها الشائك أيضا , إذ لا ثمر في الثمرة, ولا أصداء لكل هذا الطنين حول ما يتورد بعين البعض , مفقودا القفير ولا شمع عسل .

ولكن يروق لي طرح السؤال التالي باستفهامهما المتشــظية ـ. - . _ . _ . ـ ؟

هل حرية الفعل الإبداعي كامنة بروح المبدع وبوجدانه الجياش أم هي تقديرية بكفه المبسوط للأخذ أو المرتعش من الكي ؟. أم هي خاضعة مع كل عملية إبداعية مخاضية للتكييف مع المزاج السائد وبكل أريحية ومراعاة لمحاذير البوح ؟.. وهل هي معتنقة بذاتها للقياس - بدقة المقاول قبل أو قبيل اعتمالها - مع ارتفاع السقف المتاح أم مع مسطرة رقيها وحالة الرضا لدى مبدعها عن معمارها. بعد معايرة خامة خطابها مع جدول المواصفات المعتمدة محليا !؟. هل نحن بحال , بزمن , بمناخ لا مواسم له لتقديم إبداع حسب القياس وحسب المناسبية وحسب الطلب ومضمون التسويق !؟ . ما يستدعي للصورة مفردة أدق ولو كانت باللكنة المصرية فنقول " صار المثقف مسقف " ..

أظننا بهكذا توصيف رياضي الحسبة لواقع مفلس سنكون أقرب لقواعد علم اقتصاد السوق وتحليلات البورصة للأسهم الأكثر مبيعا وربحية !! ....

فهل يعمد المثقف المبدع إلى تسقيف وعيه بيديه وتسوير انفلاتاته وتحيين وتقنين مداه بخطة سير آمن قانعا بما سيمر به من إشارات ضوئية ( أحمر أخضر أصفر ) ؟..

عندها سيكون المثقف بالفعل " مسقف ومحال للانهيار أيضا "

من هنا نلحظ الحض بكثافة ومباشرة عند سعيد نحو تبني أسلوب المفكر المثقف المعارض بذاته كسمة مركزية لموقفه بالمعنى العام الواسع. أسلوب ومنهج المثقف الحقيقي مهم في توصيف المثقف وإبرازه : فهو لا يسجل تميزا فريدا عما يحيط به من التجانس الموجود والتخصص والمهنية بل يسجل أيضا رفضا لقبول امتيازات السلطة وإغراءها وضغوطاتها.

أن أزمة انعدام الحرية الفكرية الإبداعية أو قولبتها تحت مسميات أخرى - لا تكتل غير هشاشة واضعيها - تعكس أزمة الوعي بفقدانها والحاجة الملحة ودائما لتحسس وجودها من عدمه - أي حرية التعبير . وهل أنت حر إبداعيا ؟ – .

" لا تكون للمنفى حدود مكانية. إنّه مقيم في الذات المحرومة

من حريتها الشخصية في التفكير والتعبير، بسبب إكراه السّلطة

السياسية أو سلطة التقاليد. يحدث هذا في المكان المضادّ، تعريفاً

للمنفى. يحدث هذا داخل الوطن "

محمود درويش

أهمية الحرية كقيمة لازمة للعقل ومفعلة للإبداع الإنساني وفاعلة فيه بالعموم والتفاصيل وهذا بلا شك أمر مدرك وثابت أصيل باستدلالاته وشواهده التاريخية , حقيقة لا ينكرها ولا يقفز عليها أحد وحتى ما عرفناه من نصوص وذخائر إبداعية بجراب الزمن وبعضها دونت تحت هول السياط وبين القضبان خدمتها قيمة الحرية وإيمان كتابها المطلق بها ولو على صعوبة دق بابها المضرجة بالحبر أو الدم . إذ لا أتصور أن القاعدة وعكسها ستفي بالغرض لنفي الحرية كمجال حيوي للإبداع وإن أنتج منه تحت نير العبودية وفي دياجيرها . تبقى الحرية محفز وملهم ومصدر ومجال ككل لا يتجزأ .

مما سلف ترسب قيمة الحرية كالدرة الثمينة على جيد أي إبداع ليس بالضرورة أن يكون للحرية كقيمة ارتباط بموضوعة نصه ولكن ما يهم بالإجمال أن تتوفر للمناخ حريته وللمبدع كاتبا أو قاصا أو شاعرا وصحفيا أيضا إرادته الحرة على أي إجناسية إبداعية كان اشتغاله وحط انشغاله , ولست هنا بصدد الحديث عن الإبداع ما بعد مغادرته بالقلم ولا عن ما سيعترضه في طريقه للبوح أو للنشر من رفض أو قص أو تكييف أو تشذيب وتهذيب وإصلاح - " بالسجن كعزلة ذاتية أو بالاعتقال والحجز الجسدي " - , وحتى ما قد يتعرض له الناص من مساومة معلنة وضمنية ومن استلاب وقمع مضمر أو ظاهر ومن إقصاء مجاهر أو متستر ومن ترهيب وتعذيب وعقاب !! .

ولعل الارتباط العضوي بين ثالوث الحرية والرأي والضمير يحيل إلى تفسير مقنع لما يبديه المثقف من وعي ومواقف لا نجد لها من مصدر وملهم ومحرض غير الالتزام الأخلاقي ونزعته الفطرية الإنسانية ... لان كون المرء مثقفا بهذا المعنى الحقيقي يتضمن اختيارا شخصيا عميقا- مسالة أخلاق بالمعنى الحقيقي وليس المعنى اللاواعي واللاسياسي للمصطلح- وهذا ما يقول عنه سعيد إننا نجده عند الفرد النادر الاستثنائي ذي الالتزام والنزاهة الضروريتين لتنفيذ مثل هذه المهمة الفكرية والمهمة السياسية. فالمثقف الحقيقي، برأيه هو شخص لا نظير له ، شخص يمتنع عن الارتباط بأحزاب منظمة، وجمعيات وشبكات.كما يؤكد أيضا على أن المثقف المنغمس في المصلحة العامة ليس مجرد معارض وحيد متفرد فضلا عن كونه فرد متفاني – أيا كان عظم التزامه لأهداف وقضايا عامة كبيرة، و أيا كان مخلصا لجماعة واسعة وللمجتمع- بل انه يقدم وينمي أسلوبا فرديا متميزا وحتى فريدا جدا.,,,,, ويرصد سعيد الخطر الأساسي الراهن الذي يواجه حرية التعبير للمثقف اليوم لا يتأتى من مصادر خارجية بل من ضغط خفي مخادع : هو إغراء الصمت والتسوية، أو بمعنى آخر ما يسميه بالجانب المظلم للمهنية والحرفية، المتمثل بالتفكير بعمله كمثقف يقوم به من أجل كسب معيشته ، فنجده في ساعات الدوام الرسمي موزعا انتباهه بعين مسمرة على ساعات الدوام وعين أخرى على ما يجب أن يكون عليه السلوك الوظيفي المهني السليم- بحيث لا يثير اضطراب قارب التيار السائد ولا يبتعد خارج الحدود أو الأطر المقبولة المتعارف عليها، وأن يتمكن من تسويق نفسه وأن يكون مقبولا ، وبالتالي غير مشاغب ولا سياسي وأن يكون موضوعيا,,,,.

" العبد الحقيقي هو الذي

لا يستطيع أنْ يعبر عن

رأيه بحرية ". أوسكار وايلد

يجدر بالكاتب والشاعر والفنان الحر والمستقل " بإبداعه " كمنتج باطني المنشأ إنساني الانتشار , أن يحتقر التمحك ويعلو على هناءة الوثير المحشو بالملق وينأى عن كل شبهة استعطاء واستعطاف كي لا يتبلد فيه الحس السامي ويتناثر وعيه الفطري بلادة مكتسبة بلا وجه أو وجهة بلا لون أو موقف. عليه أن يعلن في داخله ونصه انتصاره للاستقلالية في الفكر والحرية في التعبير وتناول همومه وقضاياه وانه مع التحرير الكامل للجمالي وإطلاقه انطباعيا متوفرا بالذائقة للجميع .. انه الوحيد المخول لذاته إعلان حركة عدم الانحياز للسلطة أيا كانت عروشها أو مآثرها ومهما علا مثالها لو توفر ! ,, وانه لن يرضى بالانضواء كأجير أو بوق أو مصفق أو مداح , فهذا ليس من دوره وليست قمة مبتغاه , انه في حالة قراءة لزمان يستغرقه ومكان مفتوح لولوجه كيفما شاء ومتى أراد لا يمكنه وهو فيه أو حياله أن يتناسي دفتره , قلمه , وريشته ليروي رؤيته تاركا للناس والتاريخ نخلها والحكم عليها كتجربة إنسانية له لابد أن تتكاثف فيها تجارب آخرين أو تتماس معها ولو بخط موازي.

" لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه "

المادة الثالثة من الإعلان لعالمي لحقوق الإنسان

إن تصدير فكرة التحلل من الدور الرمزي والوعظي للمثقف التقليدي التي تساور بعض المثقفين لا تفيد إلا في نسخ التطابق مع فكرة الزعامات وتقلبات أنظمة الحكم العربية في المسار والموقف بالمطلق والتي غادرت موضة النضال وتحررت من تراثها البطولي إبان عهود المنصة وخطابات الراديو المطولة وباتت عارية من أي توت شريف يستر عوراتها الشائكة ويكنس فضائعها اللإنسانية ,, فكأن العقل العربي وما ينضوي تحته من كتاب ومبدعين ومفكرين من كل الأطياف والمشارب على موضة أصحاب الصولجانات العربية الحاكمة الذين بعد أن طافتنا أشرعتهم وأغرقتنا في حوض القرن الماضي بمحاليل الايدولوجيا ا( الماركسية بطباعتها اللينينية والماوية والاشتراكية التلفيقية من هنا وهناك ) ونافحت عن العرق والقومية ( ببعثيات بغدادية ودمشقية ) وتحركت على مسطرة الاتجاهات ( بين اليسار واليسار ولا يمين لنا إلا الخونة وهم في أحضانهم اليوم يرفلون ) قد ملت المقاومة وتنكرت للكفاح وتلبست الخنوع والخضوع وبات لزاما أن يختم المنتج الثقافي أيضا بكل إكسسوارات هذا التحول وتعويم المثقف كبوق ومداح يحتاج إلى المعونة والعمالة والتطبيع أسوة بسجانه القديم وحاكمه الوارث والموروث في الراهن الاضمحلالي ....... فلا أنسنة للوجود ولا وجود للقيم والمثال ولا راشح من قماشة الأبجدية ورقاع الكلمة إلا آسن الحبر وراكد المعنى ولا تعويم إلا لكل فج وفاسد ..

يقول جبران خليل جبران :

" وعندي أن الاحتشام في إظهار الحقائق الشخصية هو نوع من الرياء الأبيض المعروف عند الشرقيين باسم التهذيب !!! ... فلهؤلاء الأدباء المفكرين أقول : أنا أندب الشرق لأن الرقص أمام نعش الميت جنون مطبق . أبكي على الشرقيين لأن الضحك على الأمراض جهل مركب . أنا أنوح على تلك البلاد المحبوبة لأن الغناء أمام المصيبة غباوة عمياء . أنا متطرف لأن من يعتدل بإظهار الحق يبين نصف الحق ويبقي نصفه الآخر محجوبا وراء خوفه من ظنون الناس وتقولاتهم ... فإن كان هناك من يريد أن يبدل نوحي بالضحك ويحول اشمئزازي إلى الانعطاف وتطرفي إلى الاعتدال فعليه أن يريني بين الشرقيين حاكما عادلا ومتشرعا مستقيما ورئيس دين يعمل بما يعلم "....

الاستثناء الوحيد كان التحول مؤخرا- ربما لرهط منهم - كنتاج تثاقف مقلد أوبمدارسة مستعجلة وأغلب الظن انه بالنسبة لآخرين كثر مثل الملاذ الأخير للعيش بجبة مثقف حداثي فتعلقوا بقشة الليبرالية ( التي يصعب وصمها بالايدولوجيا وإن كان البعض يضعها والعلمنة بسلة كافرة ) في حاضر خدمته ثورة الاتصالات والمعلومات ليمنح للحريات العامة المكممة ألسنة مقال للقول والتصريح والإعلان بوسائطها المستحدثة والمتفوقة على أدوات وقوانين الصمت والصمم عقب تهالك الأسوار الحديدية الكبرى وتداخل قضايا وشؤون القرية الكونية بعضها ببعض رغم تماوج تيارات أخرى تلونت بالدين أو تعممت به وما باتت تعانيه الأنظمة الشمولية من حرج وخوف من الإفراط !؟ في استعمال قواها أو استعراض عضلاتها ببطش عصروسطي .. كما حركت العولمة وحرب مكافحة الإرهاب عناوين جديدة من حوار الحضارات وصراعها إلى نبذ العنف ومحاربة التطرف, غير أن انعكاسات بعض هذه التيارات والعناوين ومآثر العصر وانتكاساته أيضا قد استوردت لنا غضب الآخرين وانزعاجهم من ثقافة الكراهية والتي سعرت وعيرت وفق المراجع الغربية ولم تكن وليدة إعادة التموضع لاستهلاكها عربيا مدروسة كمقرر ذاتي المنهج لمثقف الأمة على خارطة الإبداع إلا بالقدر الذي ينجيه من معرة التملص عن يساره القديم وإمعانا في مواجهة عدو المرحلة المقترح والمتزمت الواجب النضال وهو التيار الإسلامي المتشدد - وحتى الوسطي والمهادن بمنظور البعض المتطرف أيضا - الذي ضاعف من قوة مراكزه وبات يمارس عليه كمبدع وبتصوره سياسة التضييق بالنيابة عن حكومتهما الأم اللاعبة بالدين والدنيا معا كيف ومتى شاءت.

لهذا ارتضى المثقف خيانة الفكرة بهشاشة صبر وبفجاجة خوض وبلادة حس , التقنع للحال والتعلق بأخر تجلياته وما لديه من مكنة الاصطباغ فأنتج تقنياته للتكيف مع الظلم والظلام ولا بأس من أن تنكس كل الشعارات وتطفئ كل الشموع .. المهم الحصول على الرغيف والباقي قبح الله ذكره نسيناه وفات زمانه ... فالقيامة غدا !!! ...

بالمقارنة نجد نفاقا كتابيا وخداعا عجيبا بالنص والصورة على مستوى البحث برتب الكتاب وطبقات الشعراء فهم لا يكفون عن الإعجاب بكتاب الغرب الذين يناصرون بمواقفهم قضايانا المركزية والفرعية ! ! وحقوقنا المشروعة والشرعية ! - (وهذا مؤشر مضلل .. كان أخر من رحل منهم الروائي البرتغالي خوزيه ساراماغو ) - ويكيلون المديح لحركات السلام بحدود وبدون حدود ومنظمات حقوق الإنسان والحرية العالمية ويشيدون بها , بل ويدعونهم ليحاضروا بأروقتهم وشاشاتهم الفضائية , ولو تفحصنا جل هؤلاء المهرطقين المتنطعين لاكتشفنا أنهم من الكلاميين المستقيمين الادعاء يمارسون الضدية على طول المشهد وبلا حياء ,, فان ناوشتهم الأحداث بإحراج واستدعاءهم الموقف الحر لمنبره ولصالح ما هو إنساني ومرتبط بقضايا الحرية وحقوق الإنسان بوطنه ولأهله تذرع بمنشة الجمال ونفضها في وجهك , أنا مبدع ولست مناضل !, أنا ممن يؤمنون بالفن للفن !, أنا أكبر من الظلم والفقر والجوع , أنا أفتش عن اللذة حيثما نهشت ... ولذلك يرى ادوارد سعيد أن الباحثين والكتاب، والمثقفين عموما يشاركون في إنتاج وقائع وحقائق الكون نفسها ؛ ولذلك فهم ليسوا ،كما يدعون غالبا، مجرد مراقبين معزولين موضوعين .

وكم سيصبح المنظر غريبا حين تكن على علم مسبق بأن البون شاسع بين ما يكتبه هذا الدعي وما يقرئه وبين ما تسمعه يردده بجلسة المقهى عن الحرية وأشعار نيرودا وكازانتزاكس وعشقه للشلطامي وأحمد مطر ومحمود درويش وناظم حمكت وطاغور وغارسيا وكويليو و ,, و ,, و ...... ,, وأنه يرى في " المثقف والسلطة " أنجليه وأن ادوارد سعيد هو الحواري الرابع عشر ... وكأن هؤلاء كانوا يقرضون الشعر ويطرحون الفكر بمواخير العراة وعلى عتبات مكاتب الوزراء , كما هم يتنعمون بديباج سرق من الشعوب ويسيحون في الأرض بأموال الجياع والفقراء ولا يحضرون إلا مؤتمرات وندوات المنبرية الجوفاء فلا يغيبون عما يحصد لهم الترويج بمتابعات الصحف وصور الصحفيين وهم يتصدرون الصالونات الأمامية ولا يحيدون بأعناقهم عنها قيد ربطة عنق , فتراهم بكل محفل وأمسية أعضاء رسميين الطبعة من الألف إلى الغثاء ,هنا لدعم للشعب الفلسطيني وهناك مع قضايا الحرية والتضامن مع السجناء والأسرى والمغيبين قسريا من بورما إلى هاييتي طالما كانت برعاية نظام رسمي ومجازة أمنيا وتحت سقف فنادق الخمسة نجوم ولا بأس إن كانت فوقهم صورة الزعيم المفدى قاهر القلم والحبر أو حتى نجمة داود لعلها توصلهم إلى محفل دولي أو نوبل بترشيح عاجل ... عند هذا الحد ستكون أنت وكل خلايا عقلك على محفة الجنون إن لم تقل لهذا المترزق : أنت من تجار الكلام والمرتزقة والقراصنة الذين افسدوا الورق والحبر ....

وهو يعلم أن إستيلاد حالة استقرار في علاقة آثمة من فوضى خصيبة الضجيج والتبعثر يشبه الوقوف عند الشاطئ المائج ورفض الرذاذ ولعن البلل ...

ولننظر إلى ما يقوله برخت: " وأسفاه للبلد الذي يحتاج عباقرة وأنبياء وكتاب عظماء أو إلهة ثانوية " .. وهي عبارة قالها تعبيرا عن مستجدات عصر ما بعد الحداثة أو ما يتطابق مع ما قاله فريدرك جيمسون ( ما بعد الحداثة ) فمجتمعنا - ( لاحظ انه يتحدث عن المجتمعات الغربية التي حققت الدمقرطة واللبرلة وراكمت من تيارات التفكير وأدوات التعبير الكثير ولم تعد إشكالية الحكم والحرية في أزمة ولا المثقف تحت طائلة القمع من السلطة الخرقاء أو الحكم غير الرشيد ) - لم يعد بحاجة لأنبياء وفحول من النوع الحداثي الراقي والكاريزمي سواء بين صانعي ثقافته أو صانعي سياسته. فمثل هذه الشخصيات لم تعد تحمل أي سحر أو جاذبية لأفراد عصر ما بعد الفردانية الجماعي .... رغم شكلية الاختلاف في الموقفين بين سعيد وجيمسون حيال صورة المثقف إلا إنهما ضمنيا متفقان على بقاء السمة الفردية بوعي المثقف وشخصيته وبانفتاحه وتعالقه مع محيطه ولكن دون مظهرية الوعظية والمسحة البطولية والدور الرسالي وهذا ما سيتضح في توصيف سعيد لما سماه بالأسلوب المتأخر للمثقف الحداثي وليس لما ما بعدها الذي نظر له جيمسون فلكل منهما إطاره الزمني لرسم صفات ودور المثقف ضمنه . وإن كان الزمن المعاصر يخدم بمجمل مجالاته ونشاطاته وقواه المهيمنة توجهات جيمسون وهو ما بات يعرف به عصرنا ويتسمى به " عصر ما بعد الحداثة " حيث صار الكل تحت طائلة التجريد والتشييء وحتى التسليع والتسويق مع صعوبة الاستقلال والانتشار بمعزل عن ميكنة الثقافة الخاضعة إضافة لأهواء الحكام وسياسات ومصالح الحكومات في بقاع شتى لكنها أيضا صارت تحت طائلة قواعد وقوانين الاقتصاد وهيمنة الربحية والمعايير التجارية وعولمة المؤسسات وحتى تزواج المال والسلطة والإعلام , لكن ومع كل هذا التحلل أو محاولته من صورة المثقف الادواردية إلا أن الواقع الراهن بصفته الما بعد حداثية لم ينجح تماما في مسح الصورة الحداثية ( الكلاسيكية ) ولا زالت الأمثلة تنبت وتنفي الاستئصال نظريا وعمليا كما هي الأحداث والمواقف تعيد الصورة الأزلية للوجود الايقوني على جداريات التاريخ التي تمجد المثقف الحر وأصحاب الفكر الحر وتحض على الرفض بالوسائل الإبداعية ( الآداب والفنون ) كافة وتبجل الاستقلالية للمثقف الذي لا زلنا نشاهد ونسمع ونقرأ انتقاداته للسلطة وتماهيه مع المواقف القيمية المثلى من الحرية والديمقراطية إلى تضامنه مع قضايا وضحايا الحروب وطلاب السلام والمساواة ورفض اللا عدل والهيمنة ودعواته لاحترام الإنسان وحقوقه ...

لذا لا يمكننا اللهاث مع كل تغير مقبول لسياقه الحضاري وحاضنه المجتمعي ويخضع لتطور تقاليد ونظم حياتية لأقاليم حضارية معينة لنطاوله ونقلده كما هو وبذات التوقيت والدرجة والمقاس واللون .. هذا تحديدا فيما يخص النقلة الثقافية مابين الحداثة وما بعد الحداثة مع خلاصة ما استغرقه جهد سعيد ومع ما طرحه من بعده جيمسون كمدخل لعصر جديد اسماه ما بعد الحداثة يتناسب تماما مع مراحل التطور الفكري والثقافي الغربي ولكننا حتما كعرب لم نعرف من الحداثة كمرحلة غير عناوين وافدة من عتباتها البعيدة ولهذا فان قفزنا إلى ما بعدها والمطالبة بعيشها كطور جديد لتطور غير موجود لأسه , لا يعدو أن يكون حالة التباس جديدة واستعجال بسبق الحدوث والتصور للقول بأننا سنركب العربة مثلهم ونحن لم نعرف العجلة بعد , فما بالكم وثمة بيننا من يجمع العصي لضربنا ولوضعها بالعجلة إن وجدت ولو بمخيالنا أو أحلامنا ...

وليس من موجز حكمة مكثف التشخيص لعلة النتاج الثقافي ودور المثقف كمحرض على البحث والتفكير وإعادة صياغة الرقعة الحضرية خاصتنا حضاريا فيما سبق عرضه من الكلي إلى الجزئي ومن العام إلى الخاص إلا في ما كتبه جبران لعله يعيين على تفهم مبتدأ ومآل الفوضى وعبثية المائة عام الفائتة بتكرار مقيم الدوران وتتناسخ أثاره يوما بعد يوم :

" ... وبالاختصار فالشرقيون يعيشون في مسارح الماضي الغابر ويميلون إلى الأمور

السلبية المسلية المفكهة ويكرهون المبادئ والتعاليم الإيجابية المجردة التي

تلسعهم وتنبههم من رقادهم العميق المغمور بالأحلام الهادئة " جبران خليل جبران

أن عمل المبدع ينتهي عند حدود دولة اللوحة ومملكة القصيدة ومسودات النص وهو مليكها المتوج , يجترح منها ما يشاء ليكون حاضرا رغم التغييب ومتجددا رغم التخريد ورجعوية السائد الثابت والعقيم ,, في المقلب الآخر ليس لأحد ممن يترصدون بضفة الشوك الحق بالوخز بالشك أو سحق مساورات التبني وتفتيت أفكاره بمطرقة النبذ إن استحالت عند الآخرين الطاعنين في الهذر مجرد تشمم لحجر براكد واقتفاء أثر لزلة وللبحث عن غبار البطل بين طياتها لوصمه بالاستعراض والنرجسية ... فهو ليس ببائع حبر فاسد لجرائد باهتة ومجلات شائهة ولا العثة قضمت عقله وطرحت فيه قيمة الحرف الغابر بدرهم طرته صورة مستبد ,, هو أيضا لا يمتشق السيف ليلزم بها محيطه الخاضع , كما أنه لا ولن ينفك عن تكريس وجوده بالفعل وممارسة موجبات القول عند كل مسكب لموقف أو مطلب لرأي طارحا خياره كمجابه للتبعية وساخر من قيد الإقطاع الثقافي وكونتات التبرير بالتزاوج لأجل العيش تحت الوصاية وفرضيات ما وراء الإبداع ,, وهذا ما جعل سعيد يتقبل أطروحة جوليان بندا ويكررها وهي القائلة بأن المثقف هو عضو مجموعة صغيرة متحمس ومندفع أخلاقيا لمعارضة التيارات السائدة بغض النظر عن عواقب تلك المواقف وتأثيراتها عليه شخصيا ....

2010-08-21_072131

حتما وإزاء كل هذا الذي يراه وحياله أيضا , لابد أن يتأبى " المثقف " عن مقاربة مؤسسة السلطة - فحراكه حتى إن توازى معها بظرفية ما سيكون بمشروطية الرصد لمضارها وأخطائها وللاحتجاج النقدي والسلمي على أدائها , عبر مؤسسات المجتمع المدني وهياكل الثقافة الأهلية وأدواتها - ولو كان رئيسها ادوارد سعيد ومنظر دستورها غرامشي .. وهذا ما نقرأه عند سعيد بأن معظم المثقفين يؤدون الدور الاجتماعي الذي قال به انطونيو غرامشي ؛ لكن قلة منهم يرتقون بأنفسهم إلى المصاف الذي وصفه لهم جوليان بندا لكي يصبحوا حسب تعبير سعيد ، احد أولئك ‘ المتمكنين من قول الحقيقة بوجه السلطة بصلابة وبشجاعة وبلا مواربة وببلاغة و بذلك لا يرى المثقف حرجا في نقد أي سلطة مهما طغت وتجبرت’.. ولعل هذا ما يتسق أيضا مع ما يضعه قول هارولد لاسكي في إطاره السياسي . " إن الحكومة تستطيع الاستفادة من المعارضين أكثر من المؤيدين . وإنها إذ تخنق النقد إنما تمهد السبيل لهدم نفسها " ......

أن التصفيق بالإكراه والتهليل بالتحشيد قد فعل لعهود من الترويض والتدجين والتخدير كظاهرة عند الشرقيين عموما بحسب وصفة جبران خليل جبران - " أطباء الشرق كثيرون يلازمون مضجعه ويتآمرون في شأنه ولكنهم لا يداوونه بغير المخدرات الوقتية التي تطيل زمن العلة ولا تبرئها " - مع تعالي وتيرة خطابات الاستلاب - *الدوغمائية المقدسة لمعتقدها والتعبوية لفرض مزاعمها بامتلاك الحقيقة المطلقة ومصادرتها من أيا كان والمنزهة عن الخطأ والشك والحتمية المنتهى والكمال فيها بلا نقص وحجاجها غير ممكن ولا يجوز نقدها بأف ! – ومن تم التورط بحبائل التوجيه للقطيع ورحلة المرعى الخالد في زحف مذل وشبه جمعي للجماهير المسعرة العواطف وللمثقف الحالم بالشمس والحرية فبات الأول أسير ظلم وظلمات وصار الثاني محض انتظار على قارعة الفراغ لوعود لن تصل ومجردا من كل حقائقه النسبية وأفكاره عن المؤمل وهي تبتلع بفجوات الأساطير وطنه المختطف وعمره التعس وراء رهانات المؤجل , بعد أن يكون قد خسر حماسته الأولى واستنفذ في السراب رحلة الكلمات وتهشمت صرامته وصلابته على جبهات الصخر والضجر ..

أو كما يقول محمود درويش " أدافع عن فكرة كَسَرَتْها هشاشةُ أصحابها وأدافع عن بلد خَطَفتْهُ الأساطيرُ " ....

وهذا ما أنتج ثقافة التمرير ومخاتلة الوعي والفرض عبر مراحل من الدوغمائية الشرسة والمسلحة بالاحتواء , بالرهاب والإقصاء والإخصاء وحتى التغييب بالزنازين والتصفية بقصاص النحاس ... وتظل الثقافة بمثابة الإعلان المكتوب والمرسوم للمثقف عن إنسانه الداخلي الذي يحاول أن يؤنسن بالقلم والريشة لوحات المكان وصفحات الزمان لمن حوله بشغفه المتضاعف وضميره الحي وبما تراه عيناه ومخيلته من صور جمالية وقبيحة موجودة أو مفقودة يكسبها بانطباعاته الباطنية منها وعنها صورا أخرى لحياة أفضل ينبذ فيها الجهل والظلام والقبح والفساد والظلم .. انه كان ولا زال يحاول في كل الأحوال أن يحتفظ بإنسانه وأن يكونه لأجله ولأجل آخرين في هذا العالم الذي يحاوله أيضا ليكون لا إنسان ...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*/ الدوغمائية تعريب لكلمة Dogmatism ,,, الدوغما, كلمة يونانية قديمة تحمل في طياتها ثلاث معاني: – الرأي – فكر فلسفي أو ديني – قرار, حكم .. ولها ترجمات عديدة، مثل: وثوقية، قطعية، توكيدية، إيقانية، معتقدية.

وهي تعني الاعتقاد الجازم واليقين المطلق دون الاستناد إلى براهين يقينية، وإنكار الآخر ورفضه باعتباره على باطل مطلق! ... ومن ثم فهي مبدأ التعصب، وسمة لكل متزمت، ومنشأ الحروب العقائدية...

والدوغمائية ليست مذهبا فلسفيا أو دينيا، وإنما هي –في أكثر معانيها انتشارا- سمة وطريقة تفكير تتسم بها أي فرقة أو مذهب أو فلسفة تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة بشكل شامل، ولا تقر بأنها قد تحتمل شيئا من الخطأ أو النقص، وتقطع بأن ما تحوزه من معارف ومعتقدات لا يقبل النقاش ولا التغيير، حتى وإن تغيرت الظروف التاريخية، أو السياقات المكانية والاجتماعية؛ فهي إذن مقدسة ومنزهة عن أي نقد، وعدم إخضاع هذه المعتقدات لفحص نقدي أو تحليلي يراجع الأسس التي تقوم عليها، ودون بحث في حدود وقدرات العقل المعرفية، فضلا عن عدم تمحيص الطرق التي توصل إلى المعرفة الصحيحة في كل لحظة تاريخية .. تم رفضه عالمياً و تم ربطه بالعنف و التطرف. المادة 1/ الفقرة 3 في إعلان الأمم المتحدة العالمي لمبادئ التسامح تقول :

" التسامح هو المسؤولية التي تدعم حقوق الإنسان، التعددية ( من ضمنها التعددية الثقافية )، الديمقراطية و سيادة القانون . و تتضمن أيضا رفض الدوغمائية و الإطلاق و تؤكد المعايير المستخدمة في آليات حقوق الإنسان العالمية ".

* / نشرت أيضا بموقع جيل على الرابط التالي

http://www.jeel-libya.com/show_article.php?id=22672&section=1

->إقراء المزيد...
Google

متواجدون

نصير شمه - مقطوعة العصفور الطائر

قصور مصراتة

art