الاثنين، ديسمبر 28، 2009

شرفة المكان الرسمي وتلويحة المثقف الحداثي

بقلم الشاعر نوري الجراح

الشاعر نوري الجرح

لسنوات قليلة فقط ظلت مفردات الهامش والهامشية، المركز والمركزية، والظل والضوء مفردات وصياغة في حركة الثقافة العربية، وثيقة الصلة بخطاب المثقف الحداثي، وأحياناً ذات دلالة استثنائية تبلغ مرتبة الأيديولوجية لديه.

كانت القصيدة الجديدة الطليعية المعارضة والاستثنائية، مثلاً، هي قصيدة النشر الهامشية، وشاعرها هو الشاعر الهامشي الثوري الذي لا يكف عن الاحتجاج على كل شيء، ويكثر في خطابه من هاء المنبر وشاعرها الجماهيري الذي يقرأ مزاميره على جمهور مستسلم، لم يسلم بدوره، من مفردات الهجاء، ولا من عبارات الازدراء والتفريع التي ابتكرها له الشعراء الحداثيون. فهو جمهور غبي وبليد ومتخلف غالباً، وتقليدي متحجر في أفضل الأحوال، كل ما يرجوه من الشاعر هو أن يغزو حواسه البدائية بشعر يصيب مناطق الغريزة لديه فيشبه شيئاً من جوعها، أو سد رمقها، مقابل شاعر تواق إلى غزو جمهوره غزوة ناجحة تعوض فشله في غزو امرأة أو سلطة أو مجد، أو شيء آخر.

وقد صنف الحداثيون علاقة كهذه بين شاعر وجمهوره بصفتها أبأس العلاقات طراً، وحبّروا آلافاً من الصفحات في هجائها وتفكيكها ونقدها وتبيان فسادها وعدم صلاحها لحياة الشعر، وحياة الثقافة، ومستقبل حواس الإنسان الجديد.

ومن جملة ما كان الحداثيون يرونه أن الدولة العربية المعاصرة هي دولة قصائد موزونة، تأبى أن تجاري تطور الشعر الحديث إلى درجة الاعتراف بقصيدة النثر شعراً، وذلك لخلل في أصل تكوينها يجعلها رجعية الخيارات مستريبة من راديكالية الشعر الجديد وشعرائه الذين رأت أنهم تطرفوا في الإعراض عن اعتماد الأوزان في شعرهم إلى درجة أدت إلى هدم النظام العروضي العربي برمته، وتبديد ما ظل العرب ينظرون إليه على أنه ثروة موسيقية شعرية وخصوصيات إيقاعية تميز الشعر العربي منذ أقدم العصور، الأمر الذي أدى إلى استنفار جيش من المثقفين الغيورين على تراث الأمة راحوا يقرعون نواقيس الخطر في صحف دولة التراث العربي ووسائل إعلامها المرئية والمسموعة، منددين بقصيدة النثر باعتبارها مؤامرة امبريالية ينفذها حداثيون عرب لقضاء هدفها فهم اللغة العربية التي هي كيان جامع، وتدمير بلاغتها الشعرية الدالة على بلاغة الأمة.

طوال الوقت لم تكن المؤسسات الثقافية الرسمية السائدة ببعيدة عن هذا التصور، ولعلها أخذت به في حالات كثيرة، على الرغم من الأعباء الكثيرة التي كانت –وما تزال- تقع على كاهلها، وعلى رأسها عبء لجم الشارع ودرء الأخطار المحتملة التي يمكن أن تهب عليها من أزقته الخلفية وحتى القلب منه. فمن منا لم يسمع، أو يرى ما وقع في غير بلد عربي للكتاب والشعراء والنقاد الحداثيين في أواسط الثمانينات من اضطهاد ثقافي بلغ درجة الإقصاء من المشهد، والطرد من العمل لصالح سيادة منظور آخر للأدب والشعر والفن، والثقافة عموماً من سماته الأساسية تقليديته المتزمنة، وأعراضه الفج عن الأخذ بالجديد أو التعايش مع. ففي نظر مثقفي المحافظة الذين كانوا (وسيعودون على الأرجح) فقهاء الدولة العربية المعاصرة ودرعها الفكري المدافع، كان الشاعر الحديث والمثقف الحداثي اليساري والليبرالي على حد سواء بمثابة شياطين: واحد شرقي شيوعي، والآخر برجوازي غربي، وكل منهما علماني ملحد ومعاد للتراث، وبالتالي كان لا بد من دعوة المجتمع إلى الحجر عليهما ليسلم أبناؤه من شرورهما الأدبية وفكرهما الهدام.

هذا كان بالأمس، وتحديداً حتى مطلع التسعينات. لكن خمس سنوات، فقط، كانت كافية لإحداث ما يبدو، حتى الآن، انقلاباً دراماتيكياً في موقف المؤسسة الثقافية العربية الرسمية من هذا المثقف –المبدع المسمى حداثياً، من دون أن يسبق هذا الانقلاب ويمهد له، أي تغيير يمكن أن يذكر في المفاهيم التي تقوم عليها نظرة الدولة إلى الثقافة.

فما الذي حصل حتى وقعت الدولة العربية ومؤسساتها الثقافية، مرة واحدة، في غرام المثقف الحداثي فبات ضيفها الذي لا يغيب عن مهرجاناتها الأدبية والشعرية وندواتها الفكرية، وحامل جوائزها، وحليفها في مواجهة خصومة الفكريين الذي باتوا خصومها، وهو ينتقل اليوم ليلعب دور المنظر لفتوحاتها الاجتماعية. فما الذي حدث في خمس سنوات فقط؟

هل تغيرات الدولة فلم تعد كما كان الحداثي يصفها حين كان ما يزال يشغل الهامش: دولة متخلفة دائماً، ومناهضة لإنسانها في أغلب الأحيان؟ أم أنه هو الذي تغير؟

الحداثيون إلى أين

لو عدنا إلى الخطاب الجمالي الصادر عن هذا المثقف لما وجدنا تغييراً يذكر، بل أنه ما يزال متشدداً في طروحاته الراديكالية الداعية إلى الأخذ بالجديد مقابل هدم القديم، والشيء نفسه نجده في الشق الفكري من خطابه. فهو خطاب ما يزال، كما كان دائماً، براقاً في توصيفه الخلل، فهو يهجو القمع العربي، ويدعو المجتمع العربي إلى تكريس قيم حقوق الإنسان وعلى رأسها حقه في التعبير عن نفسه، لكن من دون أن يحدد لنا هذا الخطاب (وربما هنا تكمن المشكلة) عن أي دولة عربية يتكلم، وأي نظام حكم عربي يقصد.

وإذا ما سلمنا أن العالم العربي يتمتع بـ 21 نظام حكم بينها مئات الخنادق والوقائع والمؤامرات، ولا يجمع بينها خطاب مشترك، مقابل نخبة حداثية ذات خطاب مشترك، ، أمكننا، ربما، فهم تلك الحرية الإنشائية العائمة التي يتمتع بها المثقفون الحداثيون، والتي لا يقيدها تحديد، إلا إذا كان موضوعه من دلت دولته وأفلت شمس قوته ولم يعد لديه ما يفعله إلا أن يقعد هو ورهائنه من السكان في رقعة حصار دولي منتظراً الفرج من الله إذ ذاك فقط يتدفق الحداثي بالشجاعة، وتنحل عقدة لسانه. وفي هذا المفصل يتيح التحديد للمؤسسات الثقافية الرسمية أن تستعمل كلماته بالطريقة التي تناسبها، وتخدم سياساتها، بينما يمكنها بقية أجزاء خطابه أن تتحرك بحرية فوق المضامين الهجائية وفوق النقد الذي يحتويه هذا الخطاب، كأنها لم تكن – ولن تكون- مقصودة، حتى لو كان العكس هو الصحيح، ما دامت هي من ينظم (من أجل ازدهار الثقافة دائماً): الندوة والمؤتمر، المهرجان والاحتفال، وحلقة البحث، وحتى التأبين.

والسؤال الآن هو: هل حقاً لم يدخل في ظن المثقف والمبدع داعية الحرية أن وجوده في هذه الأنشطة الرسمية سوف لن يحوله هو وثقافته الحديثة إلى مجرد ديكور ثقافي، يكمل بوجوده أثاثها الحضاري أو قناع يركز لها صورة أنسب من صورتها، أو شاهد بين شهود كثر يدلون على ميزات لا تتمتع بها؟ وهل تساءل هذا المثقف إن كان يعقل لخطاب ينطلق من فسحه الحرية الرسمية أن نفهم منه أن يهجو هذه الفسحة؟ أو أنه لا يعني بأي حال من الأحوال، اعترافاً بأهلية المكان الرسمي وإشارة إلى نضج علاقات حرية التعبير فيه، وتبرئة له في النهاية من كل المضامين النقدية التي تحملها خطابات المثقف للسلطة القمعية العربية؟

لم يملك الخطاب التحرري الحداثي، خلال العقد الأخير على الأقل، وإلا نادراً، أن يضع النقاط على الحروف ويسمى الأشياء بأسمائها، حروفه غالباً بلا نقاط، وليس هناك ما يشير، ولو بأصناف كلمات متقطعة، إلى واقعة انتهاك الحرية ومكان القمع. الأدهى من ذلك أن النقاط أحياناً ما تترك للجهة المستضيفة فتختار لها من كلام المثقف ما يوافق حاجتها. أو ليس هي صاحبة الدعوة.

لقد توصل المثقف الحداثي في زواج المتعة هذا، أو شراكة المأزق مع الدولة العربية التي تغيرت ظروفها لم تتغير مقوماتها، إلا ابتكار صياغات عمومية توحي لقرائه بأنه ما يزال نصير الحرية، ونصير حق المختلف في اختلافه، وحق المعارض في معارضته (ما دامت حالته في النهاية قابلة للتوافق مع الصياغات الليبرالية في طبعاتها الخاصة بالمجتمعات المولعة بالأصالة، وما دامت لم تقع تحت العين الحمراء للسلطة الخاضعة لفلك المركز الحداثي الأقوى).

وإذا كانت الحداثة الإمبريالية حسب مصطلحات الخطاب ما بعد الكولونيالي، قد توصلت من مركزها الأمريكي إلى صياغة (وإنتاج وتسويق) تعريفات للإرهاب ألزمت بها غالبية الدول التابعة للحداثة فإن المثقف الحداثي الذي لم يكلف نفسه عناء فحص هذه التعريفات، أخذ – كما كان متوقعاً منه تماماً- يقاتل لتثبيتها في خطابه، على رغم ما في هذه التعريفات من تنكر لحقوق الذين سلبت حقوقهم المشروعة والمعترف بها دولياً وقاموا يقاتلون لاستعادتها، بما يضعه في النهاية في أزمة ضمير، وفي مفارقة لا أخلاقية.

لكن ماذا يفعل هذا المثقف ما دامت المؤسسة الثقافية قد رفعته (في عمل يتناسب طرداً مع انسحاقها أمام المركز الإمبريالي) فانتقل من حالته الهامشية إلى حالة الشريك في البرهة غير أن يتصرف كالعبد المرفع في الدولة الفرعونية (حور محب نموذجاً) أي أن يربط مصيره بمصيرها، وأن يذهب في بعض الحالات ضحية تناقضها مع الشارع. (يمكن الإفادة، هنا، في بناء مزيد من الأمثلة حول ما سلف من دراسات إدوارد سعيد، وخديجة صفوت، وعبد الوهاب المسيري. الأول في ما يتعلق بالحداثة الإمبريالية، والثاني في ما يتعلق بالعبد المقاتل ولدى الثالث في ما يسميه بالنخبة المملوكية)، والمصطلح الأخير يصلح استعماله في وصف فئات من المثقفين الحداثيين الذين لم يشغلهم التفكير بالحيز الاجتماعي وبالتناقضات الفادحة التي وضعت فئات واسعة من الناس في مواجهة نظم الحكم (وصلت في حالات كثيرة إلى درجة الصدام المسلح والإبادة الجسدية) بمقدار ما شغلوا بالسلطة تشريحاً، ونقداً ومغازلة.

ولم ينشغل أدباء هذه الفئة بإيجاد لغة للحوار مع الشارع والناس بمقدار ما شغلوا بتوليد إنشاء حداثي: (شعر، قصة، رواية، نص مفتوح ... الخ) من سماته الأساسية اتجاهه إلى احتلال اللغة وإعادة تشكيلها لبناء نص حداثي أعلى، وبالتالي نص يصعب تداوله خارج إطار النخبة (لا اعتراض كبيراً لدي على ذلك لكوني أصنف شاعراً حداثياً) أي نص لا يفعل في كثرة الناس التي سوف تترك بالتالي لتفعل فيها نصوص أخرى. هي عل الأرجح نصوص التراث في طبعات متعددة.

على هذه الخلفية، يقف المبدع الحداثي النخبوي غريباً إلى الأبد مرة في لغته المنفية في تعاليها، وأخرى في المهرجان الشعري المفبرك، وإذ يشكو من خلو القاعات، فلأنه لا يكف عن التمزق بين طموحه الجمالي الغريب المتشح بعيداً عن الناس، وبين رغبته في أن يرى وجوده بين سلطتي النص المتعالي، والسلطة المتهاوية أن يصوغ لنفسه موقعاً بين الناس، ولنصه أثراً فيهم؟

يشغلني شخصياً هذا السؤال، إلى درجة إعادة التفكير بلغة النص، وبعلاقته بالناس (أي ناس؟) وبحركة المجتمع، وبالأطر التي تتحرك فيها الثقافة، وبمعنى الحداثة، وما إذا كانت حداثة عربية واحدة أم حداثات عربية، وحداثات أخرى متعددة. وبمقدار ما تشغلني القاعات الشعرية الفارغة، تشغلني القاعات الشعرية الغاصة ، وتشغلني بينهما أصوات النص الحديث، والدوافع البائسة إلى حبسها في صوت قلق أو جهوري لا فرق، لكن الآن لحظة المهرجان دفق صوتي يغزو أذناً مسكينة هي الأخرى، لكونها ضحية أوهام خاصة بها، ووليدة تصورات جرى تشويهها، واختزالها في علاقة هيمنة غريبة بين الشاعر والمستمع، لكنها كاركاترية، أيضاً، لكونها علاقة تجعل الشاعر يستعير من السلطة منبرها. ومن المكان الرسمي شرفة للإطلال على الناس.

إن في ذلك أوضح العلامات على تحقق ما لا يمكن أن يتحقق إلا قسراً لكنه يملك أن يوهم بأن شرطه الحرية.

______________________________

*المقالة منقولة دون اي تعديل كما نشرتها مجلة “ المجال “ الليبية

, تصدر عن جامعة عمر المختار , العدد 20 ,صيف 2009

->إقراء المزيد...

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Google

متواجدون

نصير شمه - مقطوعة العصفور الطائر

قصور مصراتة

art