الخميس، ديسمبر 03، 2009

الصحف الخمس عند بوابة سوق الجريد

clip_image001

ملخـص لمـحـاضرة ألـقـيت في مـعـرض الكتـاب بـنـنـغـــازي

11 / 2009

د.محمد محمد المـفـتي

مـسـاء الخـير

قبل البارحـة .. احتـفلنا بتكريم أحـد الآباء المؤسـسـين للـثـقافـة الليبية الحـديثة .. الدكتور وهبي البوري .. تلك الثقافة .. أو الجـانب الكتـابي مـنـها الذي وضـعـت لبنـاتـه إبان عـقـد الثلاثينيات .. وفي بنـغـازي .. على ما أعـتـقـد.

نكرم الدكتور وهبي كأول من كتب القصة القصيرة في ليبيا، ولعطـائه المتواصل. لكن موهبـة البوري تـفـتـحت على صـفحات مجلة ليبيا المصورة، وكان هـو أحـد أبناء النخبة الليبية التي كرسـت جـهـدهـا في أواخـر الثلاثينيات للكتابة باللغة العربية وللتذكير بالوطن. ربما كان أغلب الليبـيين أميين آنذاك .. بيد أن كلمات أدباء النخـبة كانت تتـناقـل من القـراء شـفاهـية لتصل بـقـية الناس .. من غـدامس وطبرق إلى مصراته وأوبــاري وهـون. وكان مجرد تألـق أدباء ليـبــيين على منوال مشـاهير تلك الفـترة كالمازني وحافـظ ابراهيم والعـقـاد والرصـافي .. بمثابة رد اعتبـار للنـفـس الليبـيـة الكـســيرة والمـقـهـورة.

أليس جـديرا بنا إذن أن نسـتـقـصي الخلـفـيـة الثـقـافية التي أعطتنا رجالا مثل البوري والمهدوي والشارف والفـقـيـه حـس؟ وهـذا ما سـأحـاوله هـذا المساء .. أن أرسـم لوحـة بانورامية عريضـة لذلك المشـهـد الثـقـافي .. وتحـديدًا المشـهد الصحفي في بنـغـازي في فترة الاستعمار الإيطالي .. وإبان فـترة الإدارة العسكرية البريطانية.

والقاسم المشترك بين الصحف التي صدرت في تلك الفترة في بـنـغازي، أنـها خرجت جميعا من مطبـعة سـوق الجريد في بيت عمر فخري صـهر شاعر الـوطـن أحمد رفـيـق الـمـهـدوي .. وهو البيت الـذي آل لأحمد رفيق بـعـد وفاة صاحبه. وعاش فيـه رفيق قرابة ربـع قـرن! وسنطل في نهاية المحاضرة على أطلال ما تـبـقى من المـطبعة نـفسـها اليوم ، على أمـل أن تـتـم صـيانـة المبنى ويحـوّل إلى متـحـف لتـاريخ الـثـقــافـة بالمـديـنة.

التـصــالح مع الماضي

ثـمـة جانب آخـر، مضـمـر، ألا وهـو ضرورة تصالحنا نحن الليبيين اليوم مع ماضينا والنظر بـعـمق وموضوعية لدور تلك الصحف في ثقافتنا وخاصة ايجابياتها، مثلما تفعل الشعوب الأخرى، وأقربها مصر .. فصحف المقطم والمقتطف والهلال والأهـرام .. التي ما تـزال تصدر إلى يومنا هذا، كلها عرفت مـثـلا بتأييدها للوجود الإنجليزي في مصر .. لكن إخوتنا المصريين يتعاملون مع تراث تلك الصحف الآن من منظور أوسع وأكثر تسـامحا.. وبـعـيـدا عن الملابسـات السياسيـة.. وليس هـناك ما يجـنى من تجـاهـلـها .. كما لا يمكن طـمـسـها لأنـها مادة مطبوعة!!

ولنسأل في البداية : هل آن الأوان لإعادة تقييم دور الصحافة في تلك الفترة؟ وهل كان لها أي أبعاد إيجابية على تطورنا الثقافي؟ هذا مع ضرورة التأكيد على أن نـقـاشـنا يـســتـدعي قـدرًا كبيرا من الموضـوعية والتسـامح .. وإلا لـن نـفـهـم تاريخـنا ، وسـيـبقى مسـتعـصـيا على التفـسـير .. وأســيـر الإدانـات والطمـس!

الحـقـائق أولا

لا خلاف على أن سـمات الـعـهـد الإيطالي طيلة العـقـدين الأول والثـاني ، يمكن تلخيـصـها في مسـلـسـل الحرب المتصـلة وبالتالي الموت والدمار والتـهـجـيـر ومـعـسـكرات الاعـتقـال. وتـعـترف الإحصائيات الإيطالية نـفـسـها بمقتل سـتين ألف وهجرة عشرين ألف إلى مصر، في برقة وحـدها، مما أدى إلى تقـليص عدد سـكان الإقليم من 225 ألف سـنة 1920 إلى 142 ألف سـنة 1931 .

التـثــاقـف

بـعـد أسـر وإعـدام شـيخ الشـهداء عمر المخـتـار سـنة 1931 ، أكملت آلة الحرب الإيطالية سـيطرتـها وبدت السلطة الاسـتعمارية وقد اسـتـقـرت. وإذ بقي بالبلاد ثلاثة أرباع سـكانـها ، فـكان لابـد من البحث عن صـيغ للتـعايش. على الصـعـيد الإنـسـاني .. نشـأت عـلاقـات وصـداقـات ، بين الناس العاديين .. وتمثلت قـنوات التـثـاقـف في احتكاك الليبيين والطليان في الورش وأماكن الـعـمل، و في المدارس وبين الجـيران .. وفي فـرق الكـشـافة مثل الـغـال أو منظمات الشـبيبة .. و بيـن المـجـنــّدين في الشرطة أو الجيش.

ومن مظاهر التأثر الثـقـافي بين الليبـيين ، تـبـنـّي الزيّ الأوروبي ، وتبني بعض الأطـعـمة والوجبات وعلى رأسـها المـكرونـة والتنّ! والأهـم دخول شتى المـفـردات: الإيطالية للعامية الليبية مثل بشكليـطـه ، ريـقـولي ، كاتشـافـيـتا ، سـتيرسـو ، ليـبـرا ، بانكـيـنا ، وبعضـها ما يزال متداولا لأن دلالـتـه محـددة كما في كلمـة تـوبـّـو أو ماسـورة المياه المطاطية، المتميزة عن ماسـورة الماء المعدنية أو ماسـورة عادم السيارة ..إلخ. وقـد لا تكـون المفردات مـهـمة في حـد ذاتـها .. لكن من السـذاجـة أن نـسـتخـف بهـذه الظـواهر البسيطة ، لأنـها مؤشـرات لمدي عمق الاحـتكــاك والمـعـايشـة.

بــريـــد برقـة

كانت "بـريـد بـرقـة" التي تأسـسـت في وسـط العشـرينيات، أولى الصحف العربية التي صدرت في بنـغازي، وكانت صحيفة ناطـقـة باسم السلطة الإيطالية ، حتى أن شـاعر الوطن أحمد رفـيـق المـهـدوي هـجـاهـا آنـذاك بقـصـيدة جـاء فـيـها:

ألم يبلـغـك ما قــال البـريــد؟

هـراء لا يضـر ولا يـفـيــد

مسـيلمـة الجـرائــد ما تـنـبـّـا

وزاد فـديـنـه كـفـر جـديـد

إذا جـاؤا إليـك به فـعـجّـل

إلى الكانـون يصـحبك الوقـيـد!

لكن المؤرخ الأول والأبرز لحـركـة الجـهـاد ، المرحـوم الشـيـخ الطــاهر الزاوى، يـعـلـق بـقـدر من الموضـوعية في كتـابه أعـلام ليـبــيا، إذ يـقـول أن صاحب جـريدة البريد ’’ كان يـنـشـر مـنـشـورات المـجـاهـدين بحـجـة أنـه يـرد عـليـهـا، ولـه من وراء ذلك مـقـصـد حـسـن، وهـو اطــلاع النـاس على هـذه المـنـشـورات، وأن المـجـاهـدين مـازالـوا فى نـشـاطـهـم وقـتـال العــدو …فـكان مـحـل التـقـديـر من مـواطـنيــه، وكانـوا يـلـتـمـسـون لـه الأعـذار‘‘.

clip_image003

ولم تكن صحيفة البريد وحـدها على هذه الشاكلة، فـقـد كانت هـناك صـحـف مماثـلـة في طرابلس وهي "الرقيب العـتيـد" و"أبو قـشـة". كما ظـهرت "اللواء الطرابلسي" المـعارضة، باسـم حزب الإصـلاح الذي أسـسـه زعـماء الجـهـاد بـعـد صلح بن يــادم عـام 1919.

لمــاذا التـعـايـش؟

لا شـك أن عوامل عديدة أقـنـعـت المسـتـعـمر الإيطالي بالبحث عن صـيـغـة للتعايش مع الليبيــين. وإن نجحت الآلة الحربية في القضـاء على المقاومـة، إلا أنها لم تـفـني الشـعب الليبي. وهـكـذا اسـتـدعى الاسـتقرار التـعاملَ مع الليـبــيين.كما أن الليبيين وفـروا عـمالة رخيصـة. ثم إن أن مشـاريع إيطاليا الإمبراطـورية كاحتلال الحبشة مثلا، احـتاجت إلى تجنيد الليبــيين. وهـكذا في سـنة 1933 عين موسـيليني أحـد أعـوانـه التاريخيين، المارشـال إيتالو بالبو حاكما على ليبيا بعد توحيد إقـليمي طرابلس وبرقـة.

واقـعـيـــة بالـبــــو ..؟

شـغل إتالو بالبو (1896-1940)، الطيار والنجم الجماهيري، منصب حاكم ليبيا لسـبـع سـنوات، وإلى بداية الحرب سنة 1940، أي إلى وفاته. كان ذكيا، وسـيمًـا، ذي شخصية استعراضية كاريزمية، أقرب إلى شخصية ممثلي السينما. كما كانت له آراء مستقلة.

بيد أنه كان دمـويا في شــبابه.. وبعد وصول موسيليني لزعامة إيطاليا، اهتم بالبـو بتطوير الطيران العسكري. لكن شعبية بالبو، جعلت موسيليني يعينه حاكما لليبيا سنة 1934 ، بمثابة إبعاد سياسي له عن مركز السلطة.

وفي ليبيا، أولى بالبو اهتماما خاصا لإعمار المدن خاصة طرابلس وبنغازي ودرنة، وتطويرها لتصبح مدنًا حـديـثـة. فشــيـدت المباني الحـكـومـيـة والفنادق، وفـق نـمـط معماري جميل، جمع بين الطراز المحلي والإسلامي والروماني. لكن بالبو كان أيـضا، مؤيدا لتوطين الطليان في ليبيا بحماس، ورتب قدوم عشرين ألف إيطالي دفعة واحدة سنة 1938.

clip_image005

من جـهـة أخرى عارض بالبو تحالف موسيليني مع هـتلر. وبعد أسبوعين من بداية الحرب العالمية الثانية ، في 28 / 6 / 1940 ، سقطت طائرتـه في أجواء طبرق، بقذائف إحدي السفن الإيطالية الراسية هناك، بسبب خـطأ على الأرجـح.

الطـريـف والمـهـم أن بالبو سـعى إلى مصالحة ثقافـية بين الوجود الإيطالي والليبيين. وحرص بالبو على التجول في أنحاء البلاد لعقد شتى الإجتماعات مع أعيان المناطق، والالتقاء بالمشائخ، واهـتم بالتـعليم وتوسـع في بنـاء المدارس العربية. كما شـجع تـعـيـين ليـبــيين في الإدارات والبلديات.

clip_image007

ليبـيا المصورة

clip_image009

أمام هـذه الخلفيـة العامـة صـدرت مجلة ليبـيا المصورة الشـهرية ، في الفترة من 1935 إلى 1940 ، والتي كانت تطبـع في بنـغـازي. ورغم أنـها لم تـخلو من الدعاية السياسية المباشرة للسلطة الإيطالية ، إلا أنـنا نلاحـظ غلبـة اهـتمـام مقالاتـها باللغـة العربية وبالوطن. وهـكذا اجتذبت ليبـيا المصورة أقـلام الشـباب المتـعـلم .. الذين شـكلوا "جـماعــة" قـدمـوا عـطاء مناهضـا للوجـود الاسـتعماري، ومـدافـعا عن الهـوية الوطـنية. وهكذا خصصت ليبـيا المصورة مثلا، بابا تحت عنوان "مدن ليبيا الزاهرة" ، وعرضت

سـير أحمد الفـقـيه حسـن وبن زكري واحـتـفـت بأشــعارهـم. وأجرت التحـقـيـقات الصـحـقـية، مثل مقالة وهبي البوري عن شـهر رمضان في بنـغازي. كما أدخلت ليبـيا المصورة ولأول مرة لعبة الكلمات المتقاطـعـة ، وضـمنت الكلمات كثيرا من المفردات المأخـوذة من التراث الإسـلامي والعربي.

clip_image011

عـهـــد الإدارة

بـعـد انتـهاء الحرب العالمية الثانية ، تولت السلطة في برقة وطرابلس إدارة بريطانية، والتي سـعت ، من باب تخـفــيف الحمل، إلى تـوليـة ليـبـيين لشتى المناصـب. كما أن الإدارة لم تخـلـو من نـسـمات الديموقـراطـية الإنجليـزية ، ربما لأن كثيرا من رجال تلك الإدارة كانوا من المدنيــيـن أصلا، ومجـرد مـجـنـدين إيان الحرب العالمية. من ذلك أنه كان يـعـقـد أسـبوعيا مؤتمر صحفي يحضره رجال الصحافة ليسـتـمـعوا إلى ما تم إنجـازه ويـسـألوا عما يخـطـر لـهـم من مشروعات أو مشاكل. وإضافة إلى ذلك أطلقت حرية التعـبير ومنـها حرية الصحافة، بل وحرية النشاط السياسي المنظم وهكذا ظهرت عـدة أحزاب في طرابلس ، وجمعية عمر المختار في بنـغـازي.

وفي عـهـد الإدارة البريطانية صـدرت مبكرا صـحـف "بنـغـازي" ، و "عمر المخـتـار" و "ليـبــيا" .. ثم الوطن التي كانت لسـان حال جمعية عمر المخـتار، ورأس تحريرهـا المرحـوم محـمد الصـابري. وخـرج أول أعدادها يوم 7 يناير 1947 ، وكانت تصـدر أسـبوعيا ، كل يوم ثــلاثـاء ، حتى أغلقت نـهائيا في عـهـد إمارة بـرقـة يـوم 14 / 7 / 1950 ، إثـر حل جمـعـية عـمر المخـتـار ، وكانت الذريـعـة الرسـمية حـدوث مـظـاهـرات احـتجـاجا على تأخر دفـن جثمان مواطن توفي بالمسـتشـفى.

وكانت الوطـن نموذجا متقدما للجريدة المستقلة أو المعارضة، عـرفـت بشجاعة مواقفها وجـســارة نـقـدهـا، حتى أمست جريدة الشارع السياسي في ليبيا الأربعينيات. وقـد حرصت "الـوطــن" على أن تؤكد باستمرار رؤيتها الليبية المتجاوزة لبرقة. كما اهتمت بأخبار الوطن العربي وخاصة مصر. وقـد سـاهمت جـمـعـية عمر المخـتار في فتح فـصـول لمحـو الأمية، وأخـرى لتـعليم اللـغـة الإنجليزية، كما رعـت الفـرق الرياضـية وحركة للكشـافة وأخيرا المسرح. لكن آراء صحيفة الوطن لم تخلو من حـدّة ومثالية.

clip_image013

مـطـبـعة سـوق الجـريـد

كل هذه الصحف صـدرت عن مطبـعة سـوق الجريد الآليـة، والتي كانت تحتل الدور الأرضي من منزل الشـاعـر أحمد رفـيق المهـدوي ، الذي أمسى الأب الروحي للحركة الأدبية آنذاك. وكما نـعـلم أن المنزل كان أصـلا ملكا لعمر فخري المحيشي ، لكنه آل إلى أحمد رفـيـق بعد وفـاة صـاحبه، وفيه عاش شاعر الوطن أحمـد رفيق أكثر من ربع قـرن .. وبالتالي من المماحـكـة القول بأنه ليس منزل رفـيـق.

بل هناك قصور في العالم ما تزال تحمل أسـماء أصحابهـا الأصليين، رغم أن استـعمالهـا وطبيعتـها الحالية لا تمت بصلة لأصـحابـها .. ومنـها قصر عابدين في القاهـرة وقـصر بكـنـجـهــام في لندن والأليزيه في باريس. ومن مثل هذه الزاوية يتضح لنا أن التسـامح ضرب من النضـج وليس "تـسـترا" على التاريخ!! وأن الحـفـاظ على المباني التاريخية ليس تخلـيـدا لأصـحـابـها بل لكـونـها شـهادة على أحـداث وتطـورات لا يمكن إنكارهـا.

وبالطبع فإن المنزل الشاغـر منـذ قـرابة نصـف قـرن، قد أمسى أطـلالا .. ويسـكنه الآن بعض العمـال الوافـدين من السـودان. أما آلات المطـبـعة فـصـدئـة .. يحمـيـها فـقـط ثـقـلـها وإلا لوجـدت من رمـاهـا .. قـابـعة تحت ركام الأحـجـار. فمتى تمـتـد إليـها مـعـاول الصـيـانـة التي تـقـوم مـشــكـورة بتجمـيـل عـمـارات المديـنـة وتكسي بالمرمر الواجـهـات الأرضـية .. حتى لمـحــلات الـقـوميـســتا (والمصطلح إيطالي !!) .. أي محل إصـلاح إطـارات السـيارات !!

clip_image015

clip_image017

->إقراء المزيد...

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Google

متواجدون

نصير شمه - مقطوعة العصفور الطائر

قصور مصراتة

art