الجمعة، ديسمبر 25، 2009

مسكينة أنت يا باريس .. !



مسكينة أنت يا باريس

" من الطبيعي أن يمعنوا في قياسنا بالمعايير ذاتها التي يقيسون بها أنفسهم...

ولكن عندما نُصور وفق نماذج لا تمت إلينا بصلة فإن ذلك لن يخدم

إلا غاية واحدة: هي أن نغدو مجهولين أكثر، وأقل حرية، وأشد عزلة

غابريل غارسيا ماركيز



يحكى أن ماري أنطوانيت الوردة النمساوية - التي نزلت من فيينا حاضرة الفنون والموسيقى الآرية إلى حدائق باريس الملكية الفرنجية العتيدة، التي وطدها شرلمان الكبير أعظم من قرأ لميكافيلي في عصره واستودع كتابه وسادته، بعد أن استنزف ما فيه من غايات ووسائل- صارت ملكة على الفرنسيين، وشريكة لويسها السادس عشر، بفرساى البيت الأعرق في أوربا.

اعتادت أن تنصح الجمهور بحنوها المعهود بأكل البسكويت في صمت، وبرسم أقنعة ملونة بعلامات السرور والغبطة بعد دفن الوجوه في بودرة الخجل الحمراء، كانت تحترم الشعب الباريسي بلياقة رومانسية راقية، وبلهجة مموسقة، جمعت بين جماليات نوتات الموسيقى السيمفونية وما تربت عليه من فنون القول واللباقة الفرنسية الطراز.. كانت رهيفة الإحساس، رقيقة الخطاب، حتى أنها ارتأت أن تقول للناس من العامة رحمة بهم وخوفا عليهم: عليكم بقطف أشواك التململ من جنائنكم، فالسيد الرقم عشري يحتاج المسايرة، ويؤمن بالمجاملة، فلا تغضبوه إن مر بكم في نزهته، رفقة صغار الأمراء، وكلابه المسكينة، وبصحبته شاعره المجبر بقوة سلاح الفرسان، التي استلته من سريره كخرقة بالية، ورمته كجراب مملوء باللحم على ظهر عربة تنز من أخشابها مسامير دامية؛ ليستعرض معه أسرابا من عصافيره بقفص الباستيل الحجري.. الملك يحب أن يشم عطر عهده على ثيابكم، فارتدوا له أجمل ما لديكم، ولا ترموا الورود في طريقه؛ لتدوسها سنابك خيوله شرقية السلالة، بل تمتعوا بشمها وهي بأيديكم.

ماري .. التي سمعت منذ صغرها تلك الأسطورة الباذخة في الخيال، بأن للنبلاء دماء زرقاء، وأنهم من نسل آلهة الأولمب، لم ترى الدماء مطلقا، ولم تلون دماء الرعية بأي لون مميز، هم في فكرتها عن الحياة والناس مثلها، يعيشون مثلها، ويأكلون مثلها، ويسمعون الموسيقى، ويتنزهون في الحدائق، وفي بيوتهم بسكويت وأفران لصنعه، ويعرفون الحلوى.. ظلت على هذا الحال حتى جاء يوم داخن بوليد جديد من نسل النار لم يسمع به من قبل، حين نشب العراك وتعال الصخب، وتصاعد الدخان، اشتعلت النيران، وعمت الفوضى، وغصت الشوارع بالمتقاتلين، المتاريس والحواجز، صراخ وانفجارات وقذائف .. استعرت، الحماسة تؤجج رغبات الانتقام في الصدور الموصدة، الكل أراد الانتصار لنفسه المظلومة، فاجتمع من الظلم والفساد والغبن ما يكفي لإعلان الثورة، والمجاهرة بالعصيان في وجه الملكية الهرمة.. البنادق تتكلم باسم الشعب، والسواعد ترفع راية الحرية والعدل والمساواة.

فرنسا على مفترق الطرق، وستضع العالم كله على سكة عصر جديد.

ماري.. لم تفهم ما يحدث، ولم تتخيل أي معنى لصورة ما يجري، ظلت واجمة تترقب وفي نفسها حطام طمأنينة، وبقايا سكون، حافظت على رباطة الجأش بصبر وثقة، ربما هي الوراثة، وطبيعة العيش، منحتها هدأة أخيرة.. لكنها كانت - لسوء حظها - مخادعة، فهي لم تكن تعرف أنه على بعد أمتار منها ثمة خطوات متسارعة لطلائع الثوار الشبان تعبر ردهات وأبهاء القصر، باحثة عنها لتنفيذ حكم أنثى أخرى ستتولى مقاليد السلطة اسمها: الثورة.


الأزمة كانت في أوج جبروتها، وصار الهيجان كالعاصفة المجنونة، أما الانفلات فلقد كان حاضرا بآلاف الأشباح يطوف الشوارع في موكب مرعب، الجماهير المحرومة والبائسة تخلت عن أسمال جبنها المرقعة بالصبر القديم، وكسرت قيود الامتثال بأسنانها، وفككت عن أعناقها سلاسل الإذعان والطاعة بمطارق القسوة، بعد أن مزقت إيمانها بظل الله في الأرض وأنكرت على الملك حقه في الرعاية باسم الحكم الرشيد، وصبت صهير غضبها على مباركة الكنيسة.

البلاد كانت بحاجة للثورة، وعلى موعد مع الموت لأجل الحياة، فحياة .. لا حرية فيها ولا خبز لا تستحق أن تكون في قفص البدن، كعمر بائس وسجين يحتويه هيكل العظام، وحري بأصحابها هدرها رخيصة في سوق الموت، علها تشتري لورثتهم أجنحة قوية، تحلق بهم نحو حياوات النعيم.

أخيرا .. قبض على ماري وسيقت إلى جلادها، لكنها كانت هادئة وجزعة في آن، كانت تنتظر أن تفهم ما يحدث، وأن تعرف معنى الثورة، وسر هذا الصخب العارم، وما خطب هذا الشعب يموج بالأزقة والجادات، ويحتل الميادين والساحات، ويحاصر القصور والقلاع، ولا يسمع الموسيقى في الحانات..! تزاحمت الأسئلة على لسانها وأثقلت رأسها الخفيف ذي الشعر الذهبي ... كانت تردد السؤال تلو الاستفهام، تحت وطأة الحيرة والدهشة: ما بال الفتيات والفتيان لا يلعبون في الشوارع وبأيديهم أقراص البيتيفور؟!.

سؤال أخير، تداعى بذهنها قبل أن تستسلم للنعاس- بعد أنهك دوار الجدل عقلها الغض- هل هذه التي يسمونها الثورة ستسعد الشعب ؟ هل الثورة جميلة ورائعة إلى هذا الحد؟ هل ستقدم لهم الثورة أشياء لم نعطها لهم ؟ هل لابد للثورة أن تعبر عن وصولها وتفرض حضورها بهذا العبث وبهذه الفوضى، ومظهرها الدائم نار ودخان ؟ هل هي دائما هكذا وستظل عاصفة هوجاء لا تهدأ ليعرف الناس طريقهم من جديد إلى هدأة العيش...؟. أخشى عليهم من الجوع؛ فالفلاح لم يعد يهتم بحقله، والطواحين توقفت، والقطعان تاهت في مراعيها، وصارت فرائس لوحوش البراري......... المدارس أقفلت، ولم يعد أحد مهتما بالصلاة، لم أعد أسمع الأجراس.

لكن روبسبير الحانق ناشر المقصلة المبجلة في الجمهورية البكر من رحم أرض التمرد والثورة على التيجان السماوية، باغث عنقها المشرئب بفصل رأسها عن جسدها، بعد أن سمح لها بجولة فوق عربة مكشوفة بشوارع باريس، وسمح للغوغاء والدهماء بقذفها بالحجارة والنفايات، كانت غير مهتمة بما يفعلون، كانت تراقب تلك الأم التي ترضع طفلها من شرفة بيتها المطلة على الميدان، وكانت محتارة في سر ذلك البريق في عيون الأم، ولماذا هي تعاود مسح وجهها بطرف ياقتها الطويلة؟!.

أطل روبسبير مزهوا، ورمى بتاجها كلعبة صدئة، بعد أن داسه بقدميه، وأمر بإكرامها بعزف مقطوعة لموزارت - رفيق طفولتها في بلاط فيينا - تصاحب موكب تابوتها المحمل على ظهر نبيل سابق إلى قبرها، تمادى في النكاية والتشفي، فغرز بطرف سكينه قطعة بيتيفور على بوفيه البهو الملكي فهشمه، معلنا كراهيته للرفاهية والفرح والحلوى.. كان دانتون يصفق بحرارة ويحيه ملوحا للجمهور براية الثورة المنتصرة على الملكية والريح .

منذ ذلك الوقت صار الدولة الجديدة قطة، بعد أن انقرضت الأسود الرمز قرينة العروش المتهالكة، لقد انطفأ لمعان الأعلام الأرجوانية، لتشتعل نوافير باريس بدماء المواطنة القرمزية ، ومن القطة وموائها تصاعدت الهتافات، ورضعت القطط حليب شعائر عشق الجماهير، التي ستنقلب لاحقا إلى طقوس تكريس الفريق الحاكم، كمجلس إلهي ينتخب كبيره، بدل ذلك الإله الفرد المستظل بعطف السماء، والذي كفر به وصار ملكا مخلوعا .. لن يطول الوقت ستنجب القطة الحبلى أبناءها، قططها السمان، بل إن بعضها سيصبح نمورا متوحشة. القطة الأم ستلون وبرها بثلاث ألوان، ستصبح زينتها اللونية هذه طقسا ورمزا مفضلا لكل القطط المقلدة التي ستقلب بيوتات العروش رأسا على عقب.. بعد سنين ماتت القطة، وتبين للناس أن حب السلطة غريزة لا يعدو أن يكون تلبية نداء لحنين قديم يقدس مرحلة المخالب.. كانت الثورة بنظر البعض كغجرية حسناء تحمل بيدها نبيذ رودوس، ولها غواية وسحر، وسكرها سيطيح بعقل كل ثائر في أتون الصراع الباطني بين النفس المستنفرة لتحقيق ذاتها والعقل المستفز بإغراء الكسل، لتنتصر اللذة والرغائب النزقة، والتي قلما يصحو من نشوتها غر لم تمسحه عذابات الحكمة، فأمامها لا يصمد دعي طهارة.

كيف ماتت القطة ؟ ..

يقال إن أبناءها بعد أن سمنوا وتقلبوا في حياة الرفاهية والخمول، انجذبوا إلى صالونات الإسراف والبذخ، بنفوس برجوازية ضعيفة لم تقو على الاحتفاظ بنقائها ، وتغيرت طباعهم ، وتنكروا لجلدوهم وجنودهم، وابتعدوا عن جمهورهم، مخالفين فلسفة التنوير وروادها، فكرهوا ما هم فيه كتمثيل أدوار المخلصين الأبطال والفرسان الأطهار، وذات يوم أحيت الضغينة اليافعة وشيطان الصراع المدمر لوثة الخيانة، فانبعثت فيهم ظلمة حاقدة، تحمل هدية الرغبة، وجائزة المشوار الطويل، إنها فكرة الخلاص من هيمنة المثل الثقيلة، وسلطة المبادئ الجائرة، فقرروا الانتقام من الأم التي أكلت الكثير من أبنائها، ونجح بعض الأحياء من بقية الأبناء الجحدة في دس السم لأمهم بقطعة لحم جلبت من مطابخ الأمراء المخلوعين، والذين صاروا عمالا بشبكة مجاري باريس.. وغير بعيد عن المكان ومأوى الطغاة القدامى اجتاحت فئران أنفاق القمامة سيول الفوضى، فطفت إلى السطح تفوح منها عفونة القاذورات، وتنزلق من على أجسادها الديدان والبراغيث، لتسكن وجه الأرض المبلط بالجثث وبالدماء، والمجعد بخربشات نظريات التطهير، وهتافات الدهماء، التي تيبست على البوابات والجدران، وعششت بالأذان، وعلقت على المداخل، وفوق النوافذ، وتسربت عبر الشقوق كوباء لا مفر منه.. الجرذان القادمة من أجرف النسيان ومن القيعان النتنة مارست الحرية بطبيعتها، ونالت حصتها من كعكة الثورة، فاستقر بها المقام في غرف الملوك وتربعت على كراسي النبلاء المنقرضين، لكنها لم تتكيف مع محيطها الجديد ولم تعر اهتماما لطبيعة العصر ومتطلبات حياة القصر، ولم تحرم نفسها من عاداتها الفطرية المقدسة، ككراهيتها للنظام ، وحبها للعبث بالتبول في أي مكان ، وعلى أي قدس أو دنس، وبالتزاوج دون حياء، ولم تستطع كبح جماح نفسها عن السرقة والاختباء، بل بالغت في السلب والنهب، وانتشر بينها الفساد فصارت لها إقطاعات، وأعادت تشغيل طبقة الأقنان والحمالين الساقطة من قانون المرحلة، للعمل في مناطق نفوذها الزماني والمكاني في سهول وغابات فرنسا، وأسكنت الكادحين في ضواحي باريس؛ لأنها تحتاجهم لخدمتها كأجناد وعسكر لخوض حربها النبيلة لتطهير وتحرير أطراف المملكة التي زحف عليها الجرمان والطليان، لكنها عجزت عن تفسير ما يراه الناس في نومهم من أهوال الكوابيس المرعبة، الجاثمة على صدورهم، وما يعانونه من تزايد أعداد المجانين والمتسولين، وما يحدث لها هي نفسها كجرذان، كانت جميعا تحلم بذات الحلم.. كانت ترى نفسها وهي ترضع من ثدي العنقاء، وأنها ستتحول إلى صقور نبيلة، وأن الشعب سيصير أسرابا من الحجل والحبارى والسمان.. ثمة خطأ ما في ما نحن فيه.. هكذا عبر مجنون عن جنونه لمجنون آخر كان يقاسمه سكب النبيذ من زجاجة فارغة، قال رفيقه ممتنا: لقد سكرت، منذ الصباح وأنت تملأ لي كأسي بالهراء الذي لا طعم ولا رائحة له.

أبناء الشعب كانوا مكومين على بطونهم تحت سقف الجمعية الوطنية، يتقاذفون كرات الهمس بألسنتهم الحافية. فيما الآذان الملقاة على حواف رؤوسهم المنكسرة تنخل الصخب من ضجيج أصفارهم الهاتفة بالخسارة على قارعة الجدل، لمشروع إصلاح الدروب، وإنارة الأفق ، كانت أيديهم ترفع أصابع الرفض ، وكانت أقدامهم تلوح بالجوارب المرقعة ، والأحذية العفنة ، رافضين التصويت على مشروع مسطرة العقوبات الجنائية الخاص بمدد الأحكام بالسجن ، وقوالب الاتهام الجاهزة للإعدام على مقصلة الثورة، كما أظهروا امتعاضا واضحا لما سمي بمسودة قانون حظر فغر الأفواه ، وسكب الأحبار في غير بنود الطاعات المنصوص عليها في وثائق البيعة الأبدية للفريق المستبد بإدارة شؤونهم ، والمستمسك دوما بقبضاته وأسنانه بالنهج والأداة.. زعيم الجناح الطاعن في العهد تحدث بلسان الطبيعة ، مستعينا بقوس قزح ليعبر عن الطيف السياسي الملتف حول اوركسترا القاعة ، فأطلق من جعبته سهما برسالة حامية استقرت بكبد الحقيقة، طالب بحدة وجرأة أخجلت الجالسين في الصفوف الأولى وأجبرتهم على ليي أعناقهم إلى الوراء باحثين عن مصدر الصوت وهوية المتحدث، الذي قال: باسم الشعب أطالب بحذف كل اللويسيون العشريون والناقصون عشر من معادلة التنوير لأحياء العتمة بكومونة باريس الطافية منذ زمن طويل كشظايا من رماد فوق حمم بركان الفوضى المكلل بعواميد الدخان.. إننا لا نرى فائدة ترتجى من هذه الدعوات الملفقة ، والمشاريع المؤجلة ، والقوانين المعطلة ، والمخططات المخدرة ، التي لن تنال عطف فولتير ولا رضا روسو نفسه لو بعثا وفي أيديهما فلسفة الدنيا وقوانين السماء.

المفرطون الجدد وأنصارهم من بني اللهاث وفرسان الهيكل الإصلاحي وأعوانهم من جناح الحراسة التكنوقراطي والمجمع البرجوازي المدعوم من كونتات وبارونات ومرابي نواحي باريس الأربع وما جاورها، رغم ما هم فيه من خلاف وشقاق، هددوا بشنق مشروعهم المستقبلي على خشبة الحاضر، وبمغادرة الزمن، وبحرق سجل تاريخ المظالم، معلنين أنهم سيمنحون ورقة التسامح وصك الغفران، ولن يطالبوا إلا بأدوار تناسب أسنانهم، وسنهم، وتشبع رغباتهم بالاشتغال بمناهج العلم المعطلة، دونما اعتبار لروح الواقع ، وواقع الأرواح، وبما يحقق بعض طموحاتهم القديمة في تعاطي مشروب السياسة على طاولة حكومية، تتوسطها كعكة فرنسية زينت بشيكولاته سويسرية، أحدهم صرخ مهددا: لئن لم تكفوا عنا فالبحر أمامنا، وسنلحق بك يا لافاييت الى هناك، حيث البر الجديد. بعد أن أقسموا بشرفهم النضالي الغابر، وبآدابهم المستوردة، وبثقافاتهم المدجنة، وبدواوين الباستيل المنحولة من مخيال أدعياء العشق المزيف لفرنسا، ومن وحي التجذيف في حق آلهتها الجليلة، وبشرف العلوم التي يقدسونها- كانت السيدة (ههههههه) في الصف الأخير تكركر، وتقهقه، حدا جعلها تتقيأ على كل الجالسين أمامها، مما أشاع القرف في الجميع، فطفقوا يتقيئون على بعضهم، دونما خجل، أو حرج، أو حياء- نطق كبيرهم ليقول: أيها السادة إن مسودات وبرديات وقراطيس الإصلاح وإعادة الهيكلة تحتاج صلاحيات لا نمتلكها، وإن هناك من يهددنا ويتوعدنا بالويل والثبور ويتربص بعجلات عرباتنا بين الأحراش، وإن خيولنا سممت في إسطبلاتها، فلم تعد لنا مطايا. نحن نجدف في الهواء والمركب غارق في الثلج ...

رد أحد النواب بالقول: إن بؤساء الشعب - الذين يتقاطرون إلى بيت الشاعر شاتوبريان - يناشدونه الإسراع في طرح كتابه " مذكرات ماوراء القبر" في مكتبة باريس الأهلية ليكشف خبايا الفساد وبشاعة شياطين البؤس، وسيتبادلون قراءتها ليل نهار، بعد أن يدفعوا ثمنها من فرنكات حليب أطفالهم، ومما سيوفرونه من فطورهم بعد امتناعهم عن شراء الكورسون المدعوم.

دبت الفوضى في طرف القاعة الأيمن، وارتفعت أصوات بعض القساوسة بالأدعية والصلوات مباركة جهودهم ومعلنة عن رغبة بابوية للحبر الأعظم بإقامة قداس كنسي للإصلاحيين بعد تعميدهم في مياه نهر الجارون، روح نيرودا حضرت، وأنطقت لسان فتاة بكماء فذهل الحضور، وعدو ذلك إعجازا ثوريا باركته الإلهة وهي في غير وعيها، تلت الفتاة بصوت واضح وبلسان فصيح بضع أبيات من شعر بابلو نيرودا وكأنه كان بينهم :

لا شيء أبدا يسلخ بعد الآن

الكلمة المغناة عن الشفاه

وكل شيء يقارن بالحرية التي لا تتجزأ

إننا نتكلم اللغة نفسها وتربطنا الأغنية نفسها

والقفص هو القفص

سواء كان في فرنسا أو في تشيلي

غير أن حكيما كورسيكيا كان يغط في نوم سحيق على كرسيه استيقظ مفزوعا، فسأل واستفسر عما يحدث، فأخبره من يجلس بقربه بما فاته، فقال - بعد أن حك ذقنه الخشنة ومسح على أنفه المتهدلة كعجينة من صفحة وجهه يستنطق مارد الكلام الراقد بتجاويف فمه الموصد منذ غادر ميناء قريته - بصوت خافت : " أمام رمال الدجل لا أفضل لك من أن تدس راسك بقارورة، وترمها ببحر، فكل هؤلاء متاجرون، وغرضيون، يلعنون الحكومة في غير ساعات الدوام، ويضاجعونها في أحلامهم، ويتوسلون رضائها في حانات يؤمها كبار ضباط البحرية، وقضاة المحاكم، والوشاة، فاحذروا من أصحاب اللسانين ومن ذوات الأربع".

غير بعيد عنه انتصب شاب ذو ملامح مارسيلية ليخلع قبعته تحية لسامعيه بعد أن اعتلى درجات مصطبة رخامية نصبت عليها بعض التماثيل النصفية لأبطال الثورة وشهداء الباستيل، مرددا -بحماسة لم تفقده رزانته أو أدبه – فأبدى موافقته لكلمات الحكيم بمقولة قال إنه التقطها من لسان ماري انطوانيت قبيل قطع رأسها:



 فيكتور هوجو   محكمة الثورة   ماكسمليان روبيسبير   ماري انطوانبيت

فيكتور هوجو , محكمة الثورة , ماكسمليان روبيسبير , ماري انطوانبيت



"أمام المقصلة ينبت لك عنق طويل ويبيض جبينك، تعتريك رعشة حياة جديدة، يتسرب إلى بدنك دفء غير معهود.. أحس الآن بروحي وكأن لها جناحين، وأدرك أن رأسي المقطوعة لا تساوي شيئا عدا أنها ترضي رغبات التوحش لأصحاب النفوس التي لا تحفل بمآثري في إسعاد الآخرين، فهي لا تملك غير ألسنة اعتادت لعق شعارات صماء، وأفواه تصب غضب بواطنها على كل من يقترب من طلاسمها، إنها نفوس لم ولن تعرف طعم البسكويت في فم طفل ولن تحس بأن الشعب يحتاج الفرح والهدوء كما هو بحاجة لرغيف خبز... وأن سؤاله المقدس الواجب جوابه سيظل كيف نحكم وليس مهما من يحكم؟ فالجدير بالثناء أن نلتحف الآمان في سرير الرخاء وأن ننعم بالمساواة أمام القضاة وأمام الفران ,, أن نحب الوطن ونخدمه في كل وقت ,,,

أن لا نتردد في التضحية بدمائنا لأجله عند عتبات النصر المزروعة بالحراب ...

فلتمنحكم السماء فسحة جديدة من العيش بسلام وعدل ,, سأصلي لأجلكم .....

صلوا لأجل الحب والسلام ولا تصلوا لأجلي........

لا أظن أنكم كنتم بحاجة لدمي

ولا لكل هذه النيران لتصنعوا قربانكم للحرية ولا أرى باريس بحاجة لكل هذا الحنق والصخب

ولا لكل هذا الزيت الآدمي المقدس وهذا الحطب من أجساد من تكرهون لتوقدوا مشاعلكم لكل العالم.....

الشمس تسكننا ضياء والله هو من صنعها وصنعنا......

يا شعبي الطيب، الوطن مصلى لكم ومحراب كبير لله..

مسكينة أنت يا باريس كم أحببتك وكم كنت ساطعة ! ............

16 أكتوبر 1793

--------------------

* "مهما كانت الزلزلة التي أحدثها نيتشه في أواخر القرن التاسع عشر ضخمة فلا يمكن أن نقارنها بالزلزلةالتي أحدثها روسو

قبل قرن من ذلك التاريخ ففكر نيتشه لم يصل إلا إلى النخبة العالمية، أما فكر روسوفقد وصل إلى أعماق الشعب."

مارك فومارولي

مؤلف كتاب: شاتوبريان الشعر والرعب الناشر

منشورات فالوا ـ باريس 2003

* شاتوبريان أحد كبار الأدباء في تاريخ فرنسا، عاش بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وعاصر الثورة الفرنسية التي اندلعت عام 1789, كتب أعظم نتاجه في زمن الثورة بعد أن تلظى بنارها الغاضبة, جايل روسو واتفق معه في كثير من أرائه. هو من عرف عن روسو الذي تنبأ بالثورة قبل قيامها بعشرين عام, أن الثورة قد خالفت فكره وأنها اختطفت ناحية مسار لم يكن ليرضاه لها لأنه أحبها وديعة وعادلة.






->إقراء المزيد...

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Google

متواجدون

نصير شمه - مقطوعة العصفور الطائر

قصور مصراتة

art