الجمعة، يناير 15، 2010

هل ما زلنا مجتمع واحات ..؟!


محمد محمد المفتي

’’ والله طرابلس هي طرابلس .. إللي يبي يدير فلوس .. يبي شـغل يمشي غادي .. وبعدين تـقـيـيد الأحوال أقل .. ‘‘، هكذا قال صديقي أحمد .. ’’لكن ؟ .. أسعار العقارات والإيجارات هناك ارتفعت بسرعة صاروخية. بإمكانك أن تحصل على دخل أعلى في طرابلس. دخلي أقل هنا. الرقم أقل لكن يؤمن لي مستوى معيشة أفضل مما لو عشت في طرابلس .. أنا هنا متريح.. لكن بالنسبة للذين في مقـتبل العمر، الفرص هناك أكبر‘‘.

تـقـيــيم مختصر، لا أعـتـقـد يختلف عليه إثنين. وهكذا يبدو أن صورة مدينة طرابلس في أذهان الليبيين لا تخلو من مفارقات.

صديق آخر لخـّّص الحال بقـوله: ’’ طرابلس في ازدهار لكنها تعاني من تضخم الأسـعار ، بنغـازي تشكي لأنها ما عندها على من تـتـكي .. وفـزان تـذوي، واحـاتها بيئات طاردة والفراغ الناتج يملؤه الأفارقة .. المحـصـلة مـقـلـقـة‘‘.

مثل هذه الملاحظات لا تخلو من موضوعية. المقلق حقا ، أن كثيرا من مناقشات الليبيين هذه الأيام لمشاكلـهـم ، أمست تنزلق سريعا، إلى الإفصاح عن تحيزات سـاذجة، لكنها لا تخلو من مخاطر قد توظف ضد الوطن. وككل التحيزات فإنها تسـتند على انطباعات سرعان ما تتضخم إلى تعميمات مريرة مبالغ فيها .. فـهل من محاولة لفهم جـذور هذه الحساسيات القبلية والجهوية؟ من أجل اجتثـاثـها والتسـامي عليها؟


أرخـبـــيـــــل


ليبيا أشـبه بأرخـبـيل من الجزر في محيط .. المدن الليبية كانت أصـلا واحـات .. مبعـثرة في الصحـراء.. نشأت كل منـها لظروف اقتصادية واجتماعية .. بنـغازي لتصدير الملح ، درنة بؤرة خضراء تسـتقي من مياه الشلال.. مصراته ازدهرت قبل قرنين كأول محطة على طريق القوافل المتجـهـة للجـنـوب .. غدامس ازدهرت قبل بضع قرون كإحدى المراكز على خطوط تجارة الذهب المستورد من غانا .. وهكذا.


لكن طرابلس ولدت كـقاعـدة بحـرية عند خاصرة البحر المتوسط في فترة الصراع الدولي بين العثمانيين والأسـبان قبل قرابة خمسة قرون.. ومن بعدها أمست سـدة الحكم .. في العهد القرمللي ثم الإيطالي ..إلخ. لكن نقطـة ضـعـفـها أنـها عجزت أن تكون عاصمة فـعالة لكامل التراب الليبي. وهكذا بقيت بنـغازي ومرزق ويفرن وغدامس وهـون والواحات الجنوبية من غات إلى الكـفـرة تتمـتـع باستقلالية .. وثقافات محلية .. لكن الشرخ الأساسي ظل بين مشرق البلاد وعربها .. فلماذا؟

بيـنـهـما بـرزخ ..؟

عبر التاريخ الحديث شـكل الفـضـاء الصحراوي الممـتـد من اجدابيا إلى مصراتة، حـاجزا هـاما في وجـه الإدارة الليبية .. ومنذ العـهـد القرمللي الذي كان أول من سـعى إلى توحيد ليبيا ببسـط نفوذه على المنطقة الممتدة من مصر إلى تونس.

الإدارة تـعـتمد على وسائط النقل لتحريك القوات وتـنـقــّـل الموظـفـين وجمـع الضرائب. لكن الفضاء الصحراوي الأوسط لم يمنع تنقل الجماعات البشرية سـواء للحج أو الاسـتقرار.. وهـؤلاء رحلوا على خـط سير يتبع خط عرض 29 الذي تقع عليه الواحـات من الجـغـبوب إلى أوجلة وهـون، تحاشيا لمناطق السـباخ الساحلية.

وصادفت هذه المشكلة السلطة الاستعمارية الإيطالية رغم ما توفر لديها من معدات حديثة من السيارة والطائرة إلى اللاسـلكي. وبعد عشرين سـنة من الغزو وتأسيس خطوط بحرية منتظمة وحّـد الإيطاليون إدارتهم في "القطرين". وفي سـنة 1938 انتهى رصف الطريق الساحلي .. الذي اخـترق السـباخ والوديان.


clip_image002[6]



وكما نعلم، ولنفس الأسباب أسس الإنجليز إدارتين عسكريتين منفصلتين لطرابلس وبرقة. وفيما بعد اسـتقر رأي خبراء الأمم المتحدة على أن يكون النظام الإداري فيدراليا بـعـد الاسـتقلال سـنة 1951.

صـراع النـخـب !

طبعا ، لم تكن هناك اختلافات عرقية أو ثـقـافية بين طرابلس وبرقة، فقد كانا إقليمين جغرافيين فقط بالنظر للحاجز الصحراوى ، مع تجانس عميق في العادات واللهجة والشعر ..الخ.

ومع ذلك عرفت حـقـبة الأربعينيات فى ليبيا مـواجـهــات وصراعات، تبدو محيرة ومحرجة. فـقد كان هناك التنافس بين برقة وطرابلس، والذي وظفه السياسيون لخـدمة طموحاتهم في الحصول على مواقع نفـوذ.

تلك الحسـاسـيات المـفــتعـلة .. أثيرت في الأربعينيات .. قبيل الاسـتقلال .. فظهر في طرابلس من عارض الوحدة مع برقة، وفي بنـغـازي ظـهـر مـعـارضـون للوحـدة مع طرابلس، من بين أعيان المدينة .. ومعظمهم من قبائل الغرب مثل ورفله ومصراته .. وكانوا ثـقـل سـكانـها آنذاك.

تـشـريح النخــبـة

داخل النخبة السياسية الليبية إبان الأربعينيات، كانت هناك مجموعات ممن لم يغادروا ليبيا وتعلموا فى المدارس الايطالية وتوظفوا فى الإدارات الإيطالية، والأسماء كثيرة. وبالمقابل كانت هناك جماعات شابة ممن تعلموا وتثـقـفـوا فى مصر وخاصة الأزهر، وكانوا ذوى نزعة عروبية ، وذوى أفق معاد للهيمنة الأوروبية، وهو ما تشربوه فى المناخ الثقافى فى مصر.

كانت الشريحة ذات الخلفية الايطالية، تمتـلك خبرات إدارية وبالتالي مفيدة في بناء الدولة الجديدة ، وبالفعل سعى السيد إدريس إلى استمالتها والاستعانة بها مبكرًا!

من جهة أخرى كانت قناعات النخبة ( الشابة عـمـوما ) العروبية ، المعادية للاستعمار، على صلة فعلية أو فكرية ، بالمتحدث الأول باسم ذلك الاتجاه ، وهو عبد الرحمن عزام أمين الجامعة العربية آنذاك. ولأسباب ما تزال غامضة ومتشـعبة شـكل عزام بؤرة مناهضة للسيد إدريس السنوسي. وعلاقة عزام بالقضية الليبية قديمة تـعـود إلى تأسيس الجمهورية الطرابلسيه في 16 نوفمبر 1918.

ومن أشهر من ارتبط بـعـزام، ولو لفترة قصيرة ، بشير السعداوى الزعيم الذي التفت حوله نخبة مدينة طرابلس في أواخر الأربعينيات، لكن السعداوي في ما بعد قبل بالنظام الملكي الفيدرالي، من أجل وحـدة ليبيا. وكذلك فـعل رجـال جـمـعـية عمر المخـتـار في بنـغازي ودرنة. وبالطبع لم تكن الأمور بهذا الوضوح ، بل تقاطعت الولاءات وتـغـيرت المواقف عبر السنين.

وعن معنى الكيان

في عـقدي الخمسينيات والستينيات عكف المؤرخون الليبيون على تسجيل التاريخ الليبي .. على مصطفى المصراتي في كتبه الأدبية التاريخية، وخليفة التليسي في ترجـماته الكثيرة ، مصطفى ابعـيو ومحمد بزامـه .. رحلة استكشاف لمسار مجتمع لم يكن قادرا على كتابة تاريخه وظل بالتالي معـتـمـدا على الروايات الشفـهية .. وفي ذلك السياق اكتشفت أعمال ابن غلبون والنايب ، وأضيفت تفاصيل جديدة وترجم الكثير. ومنهم من كتب تاريخا محددًا مثل الشيخ الطاهر الزاوي في تاريخ الجهاد، أو فشيكة الذي أرخ لسيرة رمضان السويحلي وما جمعه الطيب الأشهب في كتبه عن السنوسية وكتاب السيدة زعيمة عن سيرة والدها المجاهد الشيخ سليمان الباروني.

ولعل ما أنجزه المؤرخون الرواد كان محاولة لتعريف هذا الوطن .. أو ما أسـماه في ما بعد الأديب المرحوم عبد الله القويري بمعنى الكيان.

واحــات بـدون طـوابي !

وتضاعفت الجـهـود وأعداد الدراسات التاريخية في العقود الأخيرة، وإن غلب عليها الطابع الأكاديمي المنشغل بتفصيص الوقائع دون الأهداف البعيدة التي أسرَت الرواد الذين ركزوا على تحديد أبـعاد هذا الكيان الليبي .. هذا المجتمع الصحراوي الفسـيـفسـائي بطبـيـعـته والممـتـد بين مصر هبة النيل وتونس الخضراء.

وصحيح .. إنك لن ترى في طرابلس أو بنغازي .. أو في معظم مدن ليبيا من طبرق إلى زواره .. لن ترى مزارع تـحـدهـا طوابي الهندي (أسوار التين الشوكي) .. ولا ترى آبار الجباده (السواني) .. ولا أطفالا حفاة يسيرون وراء حمير محملة .. لكن رجال إداراتنا مازالوا يختارون موظفيـهـم على أساس القرابة ويوزعون المشاريع وفق ولاءاتـهم الجـهـوية .. ومازلنا نشتعل بغضب القبيلة عند أول سـيـمافـرو !!

كل ذلك يحعلني أتسـاءل: هـل نجـح المشروع الثـقــافي في تحديث مجـتمـعـنا؟ وإلى أي مدى حـقـقـنا القـدر المطلوب من شـعـور المواطـنة، بما يتـسـق مع متطلبات العصر؟


* نشر بصحيفة قـورينا ، الخميس ، 14 / 1 / 2010




->إقراء المزيد...

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Google

متواجدون

نصير شمه - مقطوعة العصفور الطائر

قصور مصراتة

art