الثلاثاء، ديسمبر 14، 2010

قورينايكي * " مصعد جبل الرخام "

  

قورينا

 

انعطفت بنا الباص الصدئة بعد عدة محطات من التوقف الاضطراري يسارا تاركة الاتجاه الرئيسي من الطريق لعربات أخرى ظلت وراءنا تنفث أدخنة الصبر وهي تنتظر نضالات سائقنا الجامح لخضنا وخوض التفافة مجنونة خارج الدرب من دون أن يصطدم بقطيع الأبقار العجاف وهي تلعق الوقت وعجولها على قارعة الزفث ..

الأبقار استحوذت على الطريق من دون أن تمنحنا أي قراءة مفيدة من مقدمة أو مؤخرة اهتمامها ولو بهزة ذيل أو بخوار اعتذار وهي تتداعى بجسارة سافرة على الطريق المخصص للبشر وعجلاتهم ,, أخيرا خلع السائق قناع حيائه وشق بسبابه صمت الراعي وعصاه ,, صارخا بموكبه الرعوي الأصهب ومتجاهلا تلويحه بما تبقى منها ليقسم دولة القطيع نصفين ,,, لقد مررنا بحماقة خطرة لا تساويها طيشا إلا عربدة البقر ونزق الثيران على حواف الإسفلت الزلقة ..

أخيرا أبدت البقرات امتعاضها من تزاحم ذوات الأربع المطاطية " السيارات " وما يضخه السائقين من زعيق بأبواقهم وأفواههم ,,, ظلت تراوح بين حافتي الطريق وعلى شفا الانتحار متأبية عن الحركة .. وكأنها تعلن عن احتقان المسار واختناق المنفذ ...

بعد دقائق مرت كالقرون من خوارية البقر والبشر تاركين بالوراء أصداء السجال الحانق تتصارع على أذان الفراغ ... عبرت بنا الباص المجنونة نحو شارع ضيق ممزق بالأخاديد والحفر المغرورقة بمياه تثرثر في الصمت قطرها بعد أن انحدرت من خدود مجاورة كدموع للسفوح الكلسية اللامعة ومن تلال الخضار المقوسة على خط الأفق أسفل بقع السحب البيضاء المتكاثفة كالدخان على الزرقة الخريفية الفاقعة ,, ..

تسربنا بهدوء كأننا نعبر إيوان الزمن بين عمودين تشجرا باستطالة أفق الغابة المحيطة , كما لو أن الماضي غرسهما جذعين من رخام معرق لا يذبل واغتسلا للتو من غبار التاريخ بوابل مطر فأطلا كبوابة باسقة ,, حف شجر الصنوبر والأرز جانبيها بظل مهيب واكتظ تحتهما عشب غضل ..

لوحة كهذه تستدعي للذكر ترانيم المراثي وحوارات المواجيد التي ضمخت رسائل سينيسوس وجاسون ماجانوس وهيباتيا بالصور القورينايكية الباذخة ,, كما تناضح فيها مداد الحسرة من سطر إلى سطر ومن جيل إلى جيل ...

حتما كان هنا من يقرأ شيء كهذا في عشايا الخريف الباردة للغيم العابرة والتماثيل الساجية مقاطع بنعومة المرمر وبهاء العاج وهو يمر بالأضرحة المسكونة بالأرواح الطيبة عند تخوم النيكروبولس الحجرية ,, ولعل عابر شاعر التقى بنصوص كاليماخ وهو يصعد صوب القيصرية باتجاه شارع باتوس الأول المزدان برواق البواكي المعمد والمتوج بوجوه هيراقليز البطل وهرمس الرسول قبالة الغرب والشمس تسدل لفامها على كل الحوائط البيضاء وبلاطات الموزاييك المضففة بحوريات الفنون وبيثيات بندار المجيدة ...

هناك حيث اكتنزت عمائر قورينا بمآثر المرمر على نيكسوس الأبطال ونقائش التتويج لأجساد وأرواح رجالاتها المحلقة على رؤوس تلالها ,, فما سمعته الفضاءات المرة عن فلسفة اللذة يقارب شهوة الإنصات من مجالس البازيليكا إلى مطارحات مسرح السوق وسجالات خطباء الرعية قبالة شرفات وأبراج الأكروبولس ... كأنني بذبذبات الصوت تعيد صداها بفقاعة الهواء القديم التي تحوم فوق مدينة الجناح الرفراف كما سماها وصورها الشعر ليؤسطر لقصة التأسيس ,, كأني بالندى السائل على وريقات التين والعنب الذي تشربته الأغصان يطرح إزهراره فلسفة يانعة ولذاذة أناشيد وأشعار طازجة تنكهتها مدونة الابيغرامات بذائقة خالدة تحت ظلال الأرز الليبي قبل أن يرفع أي تروبادور عصروسطي عقيرته بالشعر المغنى في الدغل الأوربي ,, فتلقفته الأزاميل مواضع لطرقها الإيقاعي على جلاميد الجبل وهي تفرغ الصلد عن الجمال المكنون والناعم ,, كما تلقنته مناقير العصافير سقسقة مجيء لكل صباح رطب تنزل فيه الشمس اللوبية بأجوراء المدينة الكوزمية لتمسح بالدفء والنور عن نقائش هياكلها نداوة الجغرافيا وخدر التاريخ .... كأني ببنداروس الشاعر الكورالي وعازف الناي شاخصا عند عتبات مكتبتها الحجرية يطالع ما نقش على أسكفة الباب من شعره فيها :

.. " فكما لا يوجد بالنهار في السماء، أي نجم أوضح أو أكثر إضاءة من الشمس، " ..........

 

 

"من صغائر الأمور أن يهز رجل ضعيف مدينة بأسرها، لكن تأسيسها بعد ذلك على أساس متين

يحتاج إلى جلد ، إلا إذا وجه الله يد الحاكم بعون مفاجئ" ..........

(( بنداروس . 522-438 ق م ))

أو كما سلم كاليماخوس برمزية على قورينا

 

سلاما يا ربتي ,,,, ولتحفظي هذا الشعب في وئام ورخاء ,,,,,,

ولتفيئي على حقولنا بما يجلب السرور علينا جميعا ,,,,,,

ولتهبي أبقارنا قوتها ,,,, ولتفيضي علينا بالقطعان ,,,,,,

ولتجلبي لنا سنابل القمح ,,,, ولتهبي لنا وفرة من محاصيلنا ,,,,,

ولتحفظي لنا السلام ,,,, حتى يحصد كل من يزرع ,,,,,,,

أكرمينا يا مليكة الربات ,,,, يا من نصلي لها صلوات ثلاث ...

(( كاليماخوس القوريني 265 قبل الميلاد)) .......

كنت قد حجزت هذا الباص منذ عشية الأمس وفور وصولي حدائق الهسبريدات ومهجع تفاحات هيراقليز الذهبية ( برنيكي = بنغازي ) من رحلة الثمانمائة فرسخ الأخيرة قاطعا كالسهم قوس الصحراء وأستار الغبار .. فتذكرت فيها ما قاله عنها كاليماخوس مادحا مدينة بشخص من تسمت باسمها الأميرة برنيكي والملكة البطليمة :

 

 

ما زال فوح العطر في ردنها ,,, يلهي العقول ويسبي الناس وجدانا

جذلى "برنيكي" أخاذة ,,, بين الحسان زرافات ووحدانا

ما كانت الفاتنات إلا بها ,,,, تدعى حسانا وكان الحسن فتانا ....

(( كاليماخوس القوريني 265 قبل الميلاد))

 

 

ظللت على هذا الحال متربصا اشتعال الباص الخامدة , ارمق على مضض وجوه الواصلين والمغادرين كناظر المحطة الذي تخيلت وجوده ولم أره ! ... لم تتزحزح مطيتنا من مكانها إلا مع أخر الليل بحجة ناقصة تقول بضرورة تمام نصاب المغادرة , وهو أن تكون كل المقاعد موجودة وكل ركابها عليها .. لم ينجح السائق في الحصول على أخر راكبين وظللنا ننتظر قدومهما حتى فاض العرق واحتقن البول .. لم يبادر أحد من الركاب بمخاطبة السائق بشان التأخير واستعجاله للانطلاق ,رغم أن الملل كان يتسرب من وجوهم كالعرق ويتربص الغضب بأفواههم المطبقة لتحرير لعناته.. لكن ثقافة الصمت كنز والخوف نعمة أخرست ألسنتهم وسعرت ببواطنهم حربا داخلية بانتظار كلمات المخلص أو مجيء مدد الركاب المنقذين من هذا القرف النابت بألسنتهم كشوك الصبار..

ركنت إلى الهدوء بدماثة مضاعفة بعد أن نالني ما نالهم من تململ ثقيل وتبرم مقيت,, لكنني تيقنت بعد مهب من الشك أن لا ريح ستأتي بمسافر غابر ولا سماء ستمطر حقائب مستعجلة ,, فعزمت على حلحلة الموقف بغواية المال وتذويب هذا العناد المتكلس بجمجمة هذا السائق النزق حتى الضياع والسفسير حد الهراء .....

بالعين الأخرى كانت بصائر رفاقي الركاب بإغفاءة مفتعلة الإغماض ولا يلوون على شيء من أمامهم ومن ورائهم , ثلاثة من بني ترابي , من الليبو الأشاوس كما رسمتهم الملامح السلالية والعلامات الفارقة ,, دمغتهم الكآبة والصمت بختمهما الوطني جدا .. البقية من العمالة المهاجرة وأصحاب النفس الطويل بالمحطات والمعابر والبوابات كمستغربين عتاة ارتادوا التلويح على ضفاف الانتظار بالطرق المعبدة والمجعدة .. بجلد ومجالدة ترسبت بآداب السفر عندهم وبفهمهم خبرات انتظار مكتسبة ومتطورة وقابلة للتمطيط بطول أي طريق وعرضه ,, كنت أراهم كالثلج الصلد , برودة لا بياض رغم سمرة سحناتهم المتنطعة بالقلق المزعوم .. بدوا غير مكترثين بالوقت بقدر ما يحسبون ما ستنفق جيوبهم التي جعلت لدخول النقود لا خروجها..

قلت للسائق بلغة رقمية يفهمها : " لننطلق وسأدفع لك ثمن المقعدين الشاغرين فما رأيك ؟ "..

رد منفرج الأسارير وكاشفا عن أسنانه الصدئة جميعا وحتى المذهبة منها ولأول مرة منذ لقائي به عشية الأمس, نفث بوجهي رصيد رئتيه من سيجارة ملتحمة بشفتيه وتتدلى كمدخنة مائلة قائلا " على كيفك يا سيد سنتحرك فورا فاصعد إلى مقعدك بينما اسكب بعض الماء للمحرك كي لا يعطش بالطريق وحتى لا تلهث السيارة ككلب بسبخة .. ثم أطلق قهقهته متوالية هاءات بالكاد ازدرتها " هههههههههههه"... فقلت لنفسي جميل أن ينجح المرء بتدوير عجلة الخبل على محور العقل وبتحريك بندول السكون في مكان تقرفص زمانه مشلولا أمام سالكيه .. فأحسست وكأنني اصعد الخطوة الأولى في رحلة المائتي ميل الأسطورية.. وبأن الوصول حتمي مهما تطاولت المفارقات ..

كثعبان متهالك كانت الباص المخردة بمعايير الصلاحية والآمان لو طبقت تبث أصوات وجع الحديد بمفاصلها المفككة ,ويجاوب صدى زحفها على درب الحفر والحصى بعظام الركاب على ظهرها الهزاز,,.. في طقس جمبازي كهذا تصبح كما لو كنت بجوف المحرك وسط تروس من الضجيج الشرس تكفيك مئونة السؤال كإجابة صارخة بك لتصمت في صمت ولتنام من فرط التعب والجنون أو لتصبر على هذا الوضع المقفل بانتظار قاع الوصول كدلو ماء أخير سيطفئ محرك لن يسكت إلا بعد نفاذ أخر اشتعالات وقوده الصاخبة .. أو موت السائق وراء مقوده بسكتة دماغية وتدحرجنا جميعا إلى قبره السحيق عند أول منعطف للتهلكة .

رغم كل هذا الاعتصار العاصف بدت الساعة الأخيرة للعتمة مسرفة في التلاشي وهي تشير إلى مواعدة وشيكة مع الشمس .. وئيدا تصاعدت الهالة وهي ترخي من قرصها اللامع خيوط النور على مسداة الهضاب المشرفة على الدرب الغبشة أمامنا .. بعيدا عن نقطة الانطلاق بسطر الليل الأخير مع بطء الحركة وظلمة الخط ,, أخيرا ولجت بنا الرحلة صفحة الصبح ..

كانت قفزة ضوئية مثيرة وكنت في طقسي الدمث وفي لياقة ممتازة ولعلها مرنة بالقدر المناسب للتعاطي مع الرحلة ومفاجأتها .. برودة الطقس وجمال الروابي والأحراش المتصل بلا قبح أو انقطاع منحت لأعصابي ومزاجي هدأة وبرد وسلام باطني كما كان للسوية الحاضرة بطيب المشاعر حيال الرحلة برمتها وغايتها ما يكفي لجعلي بشهية مفتوحة أيضا لالتهام كل المنغصات والمثبطات العجيبة التي ستلتئم بمحيطي وأمامي ..رغم صرامة الاستفزاز المتربص بصبري إلا انه لم ينجح في نخري بالهشاشة أو وصمي بالانهيار وأنا أخوض اختبارات الصمود في رحلة استكشاف لأوابد الحجر مسافرا بين أطراف وطن لملمه التراب وتناثر بشره وحجره على رقعة التطواف,, احتاج خرائطه , سجلاته , ألبوماته , لأبصم عليها بأصابعي ولأراه كما ينبغي له ويجدر به .. شاهد عيان يحفر في زمنه وأرضه ,, كابن تراب يعرفه ويقدر مكنونه وذخائره ,, ولأتنفس فيه مروج روحه وهي تأترج بين أحضانه المترامية ..

ظللت على هذا الحال أنبذ شيطنة القلق مستبشرا بكل التعب , نافضا عني وعثاء السفر وراء كل متر تعبره عجلات هذا الباص العجوز.. وهو بالكاد يصعد بين تجاعيد هذه الجيولوجيا الهرمة منذ ما بعد الطوفان العظيم ..

إلى ناحية منبسطة ومنخفضة هوت بنا الافعوانة التي نمتطي حتى أن أحد الركاب بمؤخرة الباص يبدو انه كان شاردا أو نعسان كاد أن يتدحرج من النافذة ليرتمي بظهر السائق كدمية بكماء ,, لم يصدر عنها غير آهات متباعدة وخافتة سرعان ما عاودت السبات بمقعدها الخلفي وسط أكوام الصرر والحقائب المزدراة .. فقط نوبات الشخير ظلت تكسب الراقد هويته الآدمية وتعلن بقائه على قيد الامتطاء " كراكب مغلق العينين , مغلق الفم يعزف بأنفه لحن الوجود" ..

كانت الأرض معشوشبة ورطبة نزلت بأحضانها قبيلة خيول طليقة السراح والصهيل ولم تسرج لبشر قط ,, ربما أهملها تاريخ الفروسية والفرسان فارتدت إلى عصرها البري جامحة لا تروم المروضين.. بالتفاتة حذرة ومحذرة بعد أن تفطن لاقترابنا منه ,, أطلق قائد القطيع صهيل البراري في أذان أفراسه محددا نطاق السيطرة على المكان بسلطة الفحولة ومحدقا بوجه عجلات الباص المهترئة التي اقتحمت حماه ككائن غريب وسمج يتحرش بزوجاته ..

احد الركاب حاول الوقوف ومد رأسه من النافذة لمتابعة هذا المشهد الخرافي الذي حدثته به رفيقه الملاصق للنافذة ..لكنه تهاوى بقوة على مقعده بعد أن ترنح الباص وانغرزت إحدى عجلاته بحفرة مخفية غطاها العشب بخضرة زائفة .. كفارس مبتدئ طفق باستحياء يتحسس كدمات نالت من رأسه وظهره فيما عيون من حوله ترمقه بالشفقة والاستغراب معا.. راكب ظريف قطع صمت الموقف وهو يكركر بلكنة ساخرة " يا رجل تشبث جيدا بسرجك فركوب مثل هذا الباص فروسية أيضا ".. لم يرد الراكب الكسير إلا بالتفاتة حانقة ناحية النافذة ليبعد نظرات الآخرين عن مقعده الذي التوت الأعناق بحثا عنه ..

طيلة الرحلة كان السائق مهووسا بأزرار جهازه الموسيقى العتيق والمبحوح الصوت , فكان من حين لأخر يعاجله بضربة منشطة من قبضة يده محاولا إعادة الصوت إلى مكبراته أو تعديله بعد أن خذلته الأزرار رافضة الدوران مع رغباته الناشزة ..

كان صوت الموسيقى مجنونا,, مرات يرتفع ومرات ينخفض ولا نسمع منه إلا خشخشات حادة وطنين خشن يخدش الأذان .. بينما السائق يردد هتافات إعجابه المرة تلو المرة " الله يا شيخ الصديق الله الله يا بوعباب - مكررا لازمة تقول – " في مرشيدس راح توارى " ..

راكب بالمؤخرة العميقة كان يغلي على مقعده كمرجل , ما انفك ينفخ بخار الاشمئزاز والنقمة ويتمتم برأي فائر , قلما يهمسه بين رأسه وركبتيه كمشروع للقفز وللتمرد وسط جوقة لا تعارض النشاز واستمرئت مهادنة النغم والسائق الممسوس بالمزمار والهدهد الصادح ,, لكنني بفضول الرصد لصالح التدوين المؤجل أظنني سمعته يقول " فال الله ولا فالك .. هذا المتخلف المخبول سيطيح برؤوسنا جميعا من هذا التابوت الذي يحشرنا به . أو لعله سيدعو شيخه الصديق مستعجلا القضاء ليصلي على جنازاتنا وبكلمة تأبين ملحونة من قاموس اللغة الحدودية ومفرداتها الهجينة بين الدارجة والمهربة " ..

لم يكن السائق المهذار مهتما بأحد عدا أمرين اثنين من شؤون السيادة وطقوس الاعتداد بشخصه المهيب كزعيم أبله لهذه الرحلة البائسة بمقياس المتاعب والمرضية لي كمجال للتعالق الحي مع الطرائف والاستقبال المباشر للمناكفات والمقالب .. مرات يجهد أصابعه بتعديل شواربه الثخينة وفتل نهايتها الرفيعة.. ثم لا يتحرج من أن يحشر إحداها بكهوف منخاره كملاقط تنظيف تكاد أن تخرج من أذنه .... ومرات يستغرق بحك فروة رأسه وبضبط تموضع شنته القرمزية* وفق إيقاعات مزاجه الطربي كلما داهمه من الاستمتاع طائف نشوة فيحركها إلى الأمام حتى تكاد أن تلثم أنفه المشرئبة وراء سحب الدخان المتصاعد من كل ثقوب جمجمته .. لم يفوت سائقنا الهوائي فرص عديدة لسب وشتم السائقين الآخرين على الطريق اثر أي مضايقة يقدرها بحنكته ونرجسيته الصادرة عن دائرة الصلف ,, فكان يصب جام غضبه عليهم وعلى شنته قاذفا بها حيثما اتفق ككرة صوفية مترهلة ,,, لكنه سرعان ما يعود ليطلب من أقرب راكب حطت الشنة بمرماه أن يضعها على رأسه فيعاود نفخها بعنجهية مضاعفة ......

كوب الشاي الخاثر الذي يضعه أمامه ,,منحه الكثير من الشراهة ليشعل الجمر من الجمر..فسجائره تتناسل الشرر من بعضها ..لكن العجوز الذي اندك بالمقعد الذي ورائه قفز لمرات عدة مذعورا من سباته وأطلق من السعال ما يكفي لاستفاقة سكان مدينة " ظنا انه البارود يكح أيضا وأن الطليان عادوا كقطاع طرق" ..

عقب عدة صليات من السعال الخارق استنفذت رئتا العجوز مقاومتها لزحف سحب الدخان المنبثة من خيشوم اللواء " بوشنة " فانخرط في دورة إدمان متحركة نجحت في ترويض أنفه وتخدير قواه فلم نعد نسمع منه أي نفس أو حس .. حتى ظننت انه قضى نحبه لو لم أراه في أخر الرحلة يبصق شحنة تبغ مستهلكة " مضغة " كانت مدفونة بفمه كخرطوشة من الكيف العشبي .. قذفها بقوة الصاروخ بعيدا فهوت كقطعة لحم مجفف " قديدة " اقترب منها قط عابر بخطوات حذرة ,, لكنه عند حافة الانقضاض راح يجسها بذيله مرة وبمخلبه مرات ..

تشممها وقلبها برجليه ثم التهمها ظنا أنها من اللحم لكنه عاود بصقها وليبدأ دوى أخر من مس السعال بصدر القط الذي فر بعيدا وهو يتقافز على نحو غريب , يتلوى كأن روح العجوز قد نفخت أحشائه ,, بدا كبالون بذيل ... تركله الريح والآلام وهو يختفي رويدا رويدا بين شجيرات الكليل المتكاثفة وهشيم الدرياس الذابل بحمرة ثماره من أثر الصقيع الحارق .....

 

لم نصل الوجهة بعد ومازالت البوصلة مفتوحة على كل الاتجاهات !! ؟؟....

 

 

* / الشنة : طاقية صوفية = غطاء تقليدي للرأس من الزي الشعبي الليبي

 

 

*- نشر بموقع جيل على الرابط التالي :

http://www.jeel-libya.net/show_article.php?section=5&id=24022

->إقراء المزيد...

1 التعليقات:

غير معرف يقول...

انت اكثر من فذ
هنيئا لنا بك
اتابعك بشغف

ل

إرسال تعليق

Google

متواجدون

نصير شمه - مقطوعة العصفور الطائر

قصور مصراتة

art